مع بداية الأزمة الاقتصادية والنقدية في العام 2019، سُئِلَ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة عن مصير اللبنانيين الذين انهارت قيمة رواتبهم وأجورهم، وتحديداً الفقراء منهم، فكان جوابه “سيعتادون”.
وعلى هذا المسار، عملت السلطة السياسية على تسهيل اعتياد الناس على الواقع، لا إصلاحه، حتى في ظل مطالبة صندوق النقد الدولي بإجراء إصلاحات كمدخل لإنجاز الاتفاق النهائي مع الصندوق، كطريق للمساعدة على الخروج من الأزمة. وما حصل، هو إصلاحات مجتزأة، في قطاع الكهرباء وغيره.
ويأتي مشروع موازنة العام 2024 كمبادرة إصلاحية من السلطة، عمادها التسليم بالدولرة واعتياد الواقع المستمر منذ 4 سنوات.
تأمين الإيرادات بالدولرة
مشروع موازنة العام 2024 الذي رفعته وزارة المالية إلى مجلس الوزراء لمناقشته، يعترف بأن الدولرة هي السبيل الأنجح والأسرع لتأمين إيرادات الدولة، التي تحتاج إلى العملة الصعبة لسداد التزاماتها. ومن المفترض حسب الموازنة تحصيل نحو 3.3 مليار دولار مقابل نفقات بنحو 2.9 مليار دولار. على أن تحصيل الإيرادات يعني الاتجاه نحو فرض استيفاء ضرائب ورسوم بالدولار، منها عائدات الدولة من استخراج النفط والغاز، وما يحصّله كازينو لبنان من إيرادات بالدولار. فضلاً عن ضرائب انتقال رؤوس الأموال الأجنبية المنقولة، وكذلك رسوم مغادرة المسافرين بحراً وجوّاً، كما الرسوم القنصلية والرسوم الجمركية. وستستوفي الدولة ضريبة على الأجور المدفوعة بالدولار.
وفي السياق نفسه، سيرتفع معدّل الضريبة على القيمة المضافة من 11 إلى 12 بالمئة. وستثبِّت موازنة 2024 إمكانية دفع رسوم مؤسسة كهرباء لبنان بالدولار.
بالدولرة، تُخفي الدولة بعضاً من أزمتها وتحرِّك عجلتها الصدئة، لكنها لا تستطيع نقل الميمنة على الميسرة. فملفّات أساسية كثيرة تبقى عالقة بانتظار الحل السياسي الداخلي والخارجي، ومنها سعر صرف الدولار في السوق وتأمين تدفّق الاستثمارات وهيكلة القطاع المصرفي، وإنهاء ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، والركون إلى خلاصة علمية حقيقية واضحة لا تستدعي السجالات، على غرار ما حصل عند الكشف على تقرير شركة ألفاريز أندا مارسال، والذي تعترف فيه الشركة أنها لم تستطع الوصول إلى كامل الملفات والمستندات المطلوبة لإجراء تدقيق كامل وشفّاف.
تفهُّم الواقع لا يكفي
الكثير من الوقت ضاع قبل اعتراف السلطة السياسية بإضاعته. ومع أن إضاعة الوقت لم يكن بريئاً وعفوياً، إنما جرى خلالها تمرير ما أمكن من قرارات سياسية وتحويلات مالية إلى الخارج، أيقنت السلطة أن المرحلة المقبلة لا تحتمل السير بلا اتخاذ بعض الخطوات مهما كانت نتائجها صعبة.
وبنظر الإقتصادي روي بدارو، فإن “السلطة السياسية بعد إضاعتها للوقت، عادت إلى الأرقام والحقائق التي لا تستطيع الخروج منها. لكن ذلك لا يكفي”. ويقول بدارو في حديث لـ”المدن”، أن على مجلسيّ النواب والوزراء “اتخاذ قرارات أساسية تتعلّق بالقطاع العام”.
الثقل الذي يلقيه القطاع العام على الموازنة، كبير جداً. وباعتراف السلطة السياسية، هناك تضخّم في القطاع العام نتيجة التوظيفات العشوائية التي انفجرت في وجه السلطة مالياً، عندما انهارت قيمة الليرة وبات من المستحيل تأمين رواتب الموظفين، بقيمة توازي إلى حدٍّ ما، القيمة الشرائية للسلع في السوق. ولذلك، لحظت موازنة 2024 الحاجة إلى تأمين إيرادات كبيرة لدفع رواتب وأجور ومستحقات نحو 300 ألف موظّف مدني ونحو 130 ألف عسكري. وعلى الدولة بالتوازي تحديد كيفية تسهيل انتقال عدد كبير من الموظفين من القطاع العام إلى القطاع الخاص، لتقليص حجم النفقات العامة على الرواتب لموظفين أدخلوا سياسياً إلى الإدارات العامة.
“السرّ الأهم” في فهم الواقع بنظر بدارو، هو “الاتجاه نحو ضبط الجمارك في مرافىء الدولة، سواء المرافىء البحرية أو المطار. فهناك تكمن الإيرادات، وإذا لم يتم ضبط الجمارك، فلن تنجح خطة تحصيل الدولارات”.
حالة التخبُّط
بين موازنة 2023 وموازنة 2024 بعض الخطوات باتجاه صندوق النقد والبنك الدولي، لكنهما تعكسان أيضاً التخبّط المستمر الذي يمكن ملاحظته من خلال عدم توحيد سعر الدولار في السوق، وهو مهمة فشلت منصة صيرفة بإنجازها، فيما “التعويل على المنصة الجديدة غير مضمون قبل شهر تشرين الأول أو تشرين الثاني المقبلين. فحينها، قد يصبح سعر المنصة الجديدة هو السعر الوحيد للسوق، وتصبح فوترة الرسوم على سعر المنصة، فيتراجع الحديث عن الدولرة”.
وكنتيجة للتأقلم والتخبُّط يشير بدارو إلى أن ما تعبِّر عنه موازنة العام 2024 هو “حالة تأقلم أغلب اللبنانيين. مع أن شريحة منهم دفعت الثمن، وخصوصاً كبار السن والعاطلين عن العمل، لكن هؤلاء سيجري دمجهم مع الواقع أكثر فأكثر من خلال مشاريع البنك الدولي مع الوزارات، ومنها وزارتيّ الصحة والشؤون الاجتماعية”.
تضع الدولة من خلال الموازنة العامة تصوّراتها للنفقات والإيرادات وللمشاريع التي ستنجزها خلال السنة المالية. لكن مرور الموازنات بشكل سلس يصحّ في غير حالات الأزمة التي تنتظر معجزة، كالأزمة اللبنانية. لذلك، فإن استسهال السلطة تمرير الوقت ودفع الناس لاعتياد الواقع، إنما هو خطة باتجاه تأجيل انفجارات اقتصادية واجتماعية مقبلة.