موازنة 2024 الكارثيّة: النوّاب يسابقون مرسوم الحكومة

واظبت لجنة المال والموازنة يوم الإثنين على مناقشة مشروع قانون موازنة 2024، لتُنجز دارسة وتعديل المواد المتعلّقة برسم الطابع المالي، بعد إنجاز مواد ضريبة الدخل. ومن المفترض أن تستكمل اللجنة العمل على مواد تعديل الغرامات يوم الإثنين المقبل، للانتقال بعدها إلى دراسة أرقام الموازنة. في الشكل، يبدو أنّ رئيس اللجنة إبراهيم كنعان يعي جيّدًا السيناريوهات المطروحة أمامه. إذ أشار بوضوح إلى أنّ تلكّؤ المجلس في التصويت على الموازنة بعد تعديلها، سيعني تمكين الحكومة من إصدارها بمرسوم، بحسب المادّة 85 من الدستور. أي بمعنى آخر، عدم الخوض بأرقام الموازنة، وصولًا إلى التصويت عليها في الهيئة العامّة للمجلس، سيعني تمكين الحكومة من تمريرها كما هي.

بهذا المعنى، لا يملك كنعان ولا لجنته ترف التغاضي عن مناقشة الموازنة، كما فعلت اللجنة بخصوص مشروع قانون موازنة 2023. ولعلّ حرص الحكومة الغريب على إرسال موازنة العام 2024 وفقًا لجميع المهل الدستوريّة، بخلاف جميع الموازنات السابقة منذ 21 سنة، لم يكن إلّا بدافع الحصول على صلاحيّة إصدار الموازنة بمرسوم. السؤال إذًا، بات يتمحور حول قدرة المجلس على إنجاز التعديلات في لجنة المال والموازنة، ومن ثم اللجان المشتركة، قبل التصويت عليها في الهيئة العامّة، من دون تجاوز المهلة الدستوريّة التي يمكن للحكومة بعدها إصدار الموازنة بمرسوم كما هي، والتي تنتهي في كانون الثاني المقبل.

مضمون الموازنة الكارثة

مجرّد اطلاع النوّاب على مواد مشروع قانون الموازنة، كما أرسلته الحكومة، كان كافيًا لفهم حجم الكوارث التي يمكن أن تمرّ، في حال تُركت الموازنة لتمر بمرسوم حكومة، من دون أي مناقشة أو تعديل في المجلس النيابي. فالمادّة 83 من القانون مثلًا تسمح للحكومة بتعديل التنزيلات والنسب والشطور المرتبطة بالضرائب والرسوم، بموجب مرسوم حكومي، وذلك لغاية العام 2026. أي بصورة أوضح، تعطي الموازنة الحكومة صلاحيّة شبه تشريعيّة، لتحديد حجم الضرائب التي تحصّلها، من دون العودة للمجلس النيابي في المستقبل. وبهذا الشكل، يتعارض نص الموازنة مع المواد 81 و82 من الدستور، التي تحصر حق فرض الضرائب أو تعديلها بالمجلس النيابي.

وعلى أي حال، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الحكومة كانت قد ارتكبت مخالفة أخرى لا تقل أهميّة. إذ تبيّن بعد حصول النوّاب على مشروع قانون الموازنة أنّ الصيغة التي تم إرسالها إلى المجلس النيابي لا تتوافق مع الصيغة التي جرى إقرارها في مجلس الوزراء. أي بمعنى آخر، قامت وزارة المال ورئاسة الحكومة بتعديل أرقام الموازنة ومندرجاتها، بعد أن جرى التصويت عليها في الحكومة، ما يمثّل تحايلًا على إرادة مجلس الوزراء مجتمعًا. وهذه المخالفة بحد ذاتها تطرح أسئلة حول الغاية من هذا التحايل، خصوصًا أن رئاسة الحكومة كانت قادرة على دعوة الحكومة للتصويت مرّة أخرى على التعديلات التي طرأت، لولا وجود ما يقتضي تهريبه بهذا الشكل.

وفي الموازنة أيضًا، يتبيّن أن الحكومة عبثت بالشطور المعتمدة لاحتساب نسبة ضريبة الدخل، على نحوٍ يُفرغ الضريبة التصاعديّة من جدواها وعدالتها. فقبل حصول الأزمة، كان الشطر الأعلى لضريبة الأرباح والدخل يصل إلى حدود 12.5 ألف دولار أميركي، ما يعني فرض أقسى نسبة ضريبة على الدخل (25%) عند تجاوز الدخل الفردي هذا الحد. أمّا في مشروع قانون الموازنة المطروح حاليًا، فتم تحديد أعلى شطر لضريبة الدخل عند حدود الألفي دولار شهريًا. وبهذا الشكل، سيتساوى صاحب هذا الدخل المتوسّط مع أصحاب الأرباح الضخمة، في سداد هذه الضريبة المرتفعة جدًا.

وفي جميع الحالات، لم تحدد الموازنة أي مرجعيّة معيّنة لسعر الصرف، من أجل احتساب الرواتب بالعملة الأجنبيّة وسدادها، وهو ما يعني العودة لسعر الصرف الرسمي الجديد (أي 15 ألف ليرة للدولار). وبهذا الشكل، سيتم احتساب الرواتب بالعملة الأجنبيّة عند حدود 16% من قيمتها، وهو ما يطيح بمبدأ العدالة الضريبيّة بين أصحاب الرواتب المدولرة وتلك المقوّمة بالليرة اللبنانيّة.

أمّا الجانب الأكثر إثارة للجدل في مشروع قانون الموازنة، فهو مجموعة الإعفاءات الضريبيّة التي نصّت عليها، ومنها على سبيل المثال تلك التي تقلّص ضريبة ربح إعادة تقييم مخزون التجّار إلى 7%، بدل تسديد هذه الضريبة وفق النسبة المتعارف عليها، أي 17%. وفي المقابل، تم استحداث وزيادة كتلة من الرسوم والضرائب غير المباشرة الأخرى، بالإضافة إلى مضاعفة بعض الغرامات بنحو 40 مرّة، في محاولة لتقليص حجم العجز الإجمالي في أرقام الموازنة. ومن الرسوم التي تم استحداثها مثلًا، رسم الاستهلاك الذي تتراوح نسبته بين 1 و4 بالألف، على أكثر من 1500 سلعة مستوردة، ومنها بعض السلع الأساسيّة التي لا يمكن الاستغناء عنها.

مداولات لجنة المال والموازنة

حتّى هذه اللحظة، ومن خلال المناقشات التي جرت في لجنة المال والموازنة، لا يبدو أن المجلس النيابي يُبدي الكثير من المرونة بخصوص الزيادات الضريبيّة. إذ علّقت اللجنة المواد التي تزيد من حجم الغرامات المفروض على المكلّفين بنحو 40 مرّة، كما حذفت تلك التي تزيد من غرامات قانون السير بنحو 10 مرّات. وفي الوقت نفسه، ما زالت اللجنة تتمسّك بمبدأ عدم فرض مواد ضريبيّة جديدة في متن الموازنة، باستثناء التعديلات الضريبيّة التي تهدف لتصحيح الواقع الناتج عن تدهور سعر الصرف، أي تلك التي تزيد من الرسوم التي انخفضت قيمتها أصلًا بفعل انخفاض قيمة الليرة.

في مقابل جميع هذه الإجراءات، أسقطت اللجنة كذلك المواد التي تعطي الحكومة حق تعديل التنزيلات والنسب والشطور المرتبطة بالضرائب والرسوم، وهو ما سيفرض على الحكومة في المستقبل العودة إلى المجلس النيابي، إذا أرادت تعديل أي من الضرائب والرسوم المنصوص عنها في الموازنة.

في النتيجة، من المبكر الحسم بالصيغة الأخيرة لموازنة العام 2024، التي ستقرّها لجنة المال والموازنة النيابيّة، بانتظار الإنتهاء من درسها وتعديلها خلال الأيّام المقبلة. لكنّ الأكيد هو أنّ هذه الصيغة ستكون أكثر تحفّظًا، من ناحية الرسوم الجديدة التي سيتم فرضها على المكلّفين، في ظل خشية النوّاب من إقرار زيادات ضريبيّة غير شعبيّة في الظرف الراهن. بطبيعة الحال، قد تؤدّي هذه الخطوة إلى زيادة العجز النهائي المقدّر في الموازنة، إلا أنّ حجم هذا العجز سيعتمد على إجمالي النفقات التي ستقرّها اللجنة بعد تعديلها أيضًا، وهو ما سيتضح بعد انتهاء اللجنة من تعديل الموازنة.

السباق مع المهل الدستوريّة

كل ما سبق، لا يمثّل بيت القصيد اليوم. إذ أنّ جدوى ما تقوم به لجنة المال والموازنة سيبقى مرهونًا بقدرة المجلس النيابي على مناقشة مشروع القانون في اللجان المشتركة، ومن ثم التصويت عليه في الهيئة العامّة للمجلس، قبل انتهاء شهر كانون الثاني، أي قبل تمكين الحكومة من إصدار الموازنة بمرسوم. ونجاح المجلس في هذه المهمّة، سيفرض أولًا تأمين النصاب لجلسات اللجان المشتركة والهيئة العامّة، أي حضور النوّاب للتصويت على بعض البنود غير الشعبيّة، وتجاوز التحفّظات حول مبدأ التشريع في حالة الشغور الرئاسي. أمّا مرور الوقت، لغاية أواخر كانون الثاني، من دون إنجاز هذا المسار، فسيسمح بإقرار الموازنة كما هي في مجلس الوزراء، بموجب مرسوم.

أخيرًا، تبقى المشكلة الأهم، صعوبة الدعوة إلى عقد تشريعي استثنائي في شهر كانون الثاني المقبل، إذا استمرّ الفراغ الرئاسي حتّى ذلك الوقت، لكون الدعوة إلى العقد الاستثنائي محصورة برئيس الجمهوريّة، بالاتفاق مع رئيس الحكومة. ولهذا السبب، وفي حال استمرار الشغور الرئاسي، ستنحصر المهلة الممنوحة للمجلس النيابي لإقرار الموازنة بالعقد العادي، الذي ينتهي في أواخر كانون الأوّل المقبل، وهو ما يقلّص من حظوظ إقرار الموازنة في المجلس. عندها، قد يكون السيناريو المتوقّع حتمًا هو إصدار الموازنة بمرسوم، ما يعني أن جميع النقاشات النيابيّة الراهنة ستكون مجرّد حرق للوقت.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةمزايدة البريد: قطبة مخفية في تراجع هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة عن موافقتهما
المقالة القادمةتجارنا “يشفطون” المستهلكين: لبنان أغلى من فرنسا وسويسرا وتركيا