أقل من أربعة أشهر كان كافية لدق أسافين جديدة في نعش مؤسسة كهرباء لبنان، بحرفيّة تامّة وبتواطؤ كل القوى السياسية، مشاركةً أو صمتاً. وبفعل الضغوط المعيشية التي يعاني منها المواطنون، وأحياناً بفعل الإحساس بالملل والعجز، لم يحصل تدقيقٌ أو إحصاء للخطوات التي مرّ بها ملف الكهرباء في جلسات مجلسيّ النواب والوزراء، منذ بداية العام 2019 وصولاً الى إقرار الموازنة، ما خلا بعض التقارير الإعلامية التي ترصد وتفنّد ألاعيب أهل السلطة.
سلفات متكررة وخطة مشبوهة
عودة سريعة الى منتصف شهر شباط الماضي، كافية للتذكير بسلفة الخزينة ذات الـ400 مليار ليرة، التي أخذتها مؤسسة كهرباء لبنان، بعد تمرير المرسوم على عجل، وقبل نيل الحكومة ثقة النواب.
بعد أقل من شهر، أجازت الحكومة دفع سلفة مالية لكهرباء لبنان بقيمة 794 مليار ليرة. وبالتوازي، حاول رئيس الحكومة سعد الحريري التغطية على السلفة الجديدة بالإعلان عن إتجاه الحكومة “لوضع خطة للكهرباء خلال ثلاثة أشهر”. فيما سلَّم رئيس مجلس النواب نبيه بري بضرورة “تعيين مجلس إدارة لمؤسسة الكهرباء، وهيئة ناظمة، وعقد جلسة مساءلة كل شهر للحكومة”.
صَدَق الحريري في أقل من شهر، إذ أُقرّت خطة الكهرباء الجديدة، وهي نسخة مُستعادة ومُجمّلة لخطة وزير الخارجية جبران باسيل حين كان وزيراً للطاقة. وفي الواقع، ليس الصدق سوى تنفيذ لمخطط متفق عليه مسبقاً بين القوى السياسية، بعد أن اكتملت عناصر الصفقة، وأخذ كلّ طرفٍ مكاسبه. وعليه، شُرِّعت الخطة ببواخرها ومعاملها ومقدمي خدماتها.
شهر إضافي، سجّل إسفيناً جديداً في النعش. هذه المرة إسفيناً رسمياً برتبة موازنة. إذ أجازت المادة الثالثة عشرة من مشروع موازنة العام 2019 إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة ومعالجة مسألة الديون المتراكمة. وبموجب هذه المادة، ستُعطى المؤسسة “سلفة خزينة طويلة الأجل بقيمة 1306 مليار ليرة، تُضاف إلى السلفة المعطاة بموجب القانون رقم 114 تاريخ 22-3-2019 بقيمة 794 مليار ليرة، لتسديد عجز شراء المحروقات وتسديد فوائد وأقساط القروض لصالح مؤسسة كهرباء لبنان”.
وقد سبق تشريع السلفة، سند “قانوني”، هو المادة الخامسة من مشروع الموازنة، والتي تتحدث عن الإجازة بالاقتراض، وتنص على الإجازة للحكومة الاقتراض، عبر إصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية لآجال قصيرة ومتوسطة وطويلة، بقرارات تصدر عن وزير المالية، وذلك لتمويل أكثر من باب، ومنها “تغطية سلف الخزينة المعطاة لكهرباء لبنان”.
مخالفة قانون المحاسبة العمومية
يعلم من أجاز دفع السلفات، بأنه يخالف قانون المحاسبة العمومية، وتحديداً المادة 20 منه، والتي لا تُجيز إعطاء السلفة في حال عدم تثبّت وزارة المالية من أنّ الجهة المستلِفة، قادرة على تسديد السلفة. وواقع مؤسسة الكهرباء يؤكد استحالة تسديدها لأي سلفة.
وإمعاناً في المخالفة، وتأكيداً على معرفة السلطة بأنها تخالف القانون، وفي محاولة فاضحة لإبتداع تشريع جديد، إرتأت السلطة أن تكتب في المادة الثالثة عشرة، أن مجرد استعمال المؤسسة لتلك السلفة، يُعتَبر “إقراراً منها بالقدرة على التسديد وفق الأسس المنصوص عليها في هذه المادة”. ما يعني أن السلفة التي ستؤدّى “بأمر من محتسب المالية المركزي، بعد موافقة وزير المالية، وتسدد نقداً”، ستُعطى من دون تأكد وزير المالية من قدرة المؤسسة على تسديدها، بل سيركن الوزير، ومن خلفه الحكومة، الى إعتبار إستلام السلفة، قدرة على السداد!
ولمزيد من إيهام الرأي العام بجديّة وقانونية وضرورة السلفة، ذكرت المادة عينها، أنه “لا يجوز لمؤسسة كهرباء لبنان، وعلى مسؤوليتها، أن تستعمل السلفة أو أي جزء منها، في غير الغاية التي أعطيت من أجلها”، وفي ذلك حرفٌ للنظر عن المسار الصحيح لنقاش السلفة، فالعبرة بعدم قانونية إقرارها ودفعها، وليس في استعمالها لغير الوجهة التي أقرّت لأجلها. فإن كان الأصل مُخالِف للقانون، فما الحاجة للتشديد على الالتزام بالفرع؟.
تعميق الأزمة
لا جدال في حاجة المؤسسة للمحروقات والمعدات، واحتياجات أخرى، وعلى المؤسسة تأمين المال المطلوب. لكن الحل ملقى على عاتق الطبقة الحاكمة، فالغاية لا تبرر الوسيلة، خصوصاً في حالة الإنغماس بالعجز والخسارة، فحينها، أي سلفة إضافية هي حجرٌ جديد يُثقل المؤسسة ويدفعها عميقاً في بحر العجز، وصولاً الى الإفلاس والإنهيار. ولعلّ هذه هي النهاية التي تنتظرها الطبقة السياسية لتعلن وفاة كهرباء لبنان وولادة مشاريع خاصة تتبلور رسمياً في وقت لاحق. وليست البواخر ومقدمي الخدمات سوى النماذج الأولية لمشاريع ما بعد مؤسسة كهرباء لبنان.
وهذا المسار يوضح سبب إعطاء الحكومة سلفات متكررة لمؤسسة عاجزة، من دون الالتزام بالقانون. وللتأكيد على ذلك، فإن السلطة الراكضة لاستجداء أموال مؤتمر سيدر، والتي على إثرها أقرت الموازنة المسماة “تقشفية”، لا تلتفت لنصائح المجتمع الدولي الذي أوصى بوقف الدعم عن مؤسسة الكهرباء، لأنها ترهق الخزينة.
وبالطبع، تعلم السلطة حقيقة الأمر، لكن وقف الدعم دون تأمين البديل، سيحرّك الشارع، خصوصاً وأن المؤسسة لم تعلن إفلاسها. فلا يبقى في هذه الحالة سوى إغراق المؤسسة بالديون تمهيداً لاستسلامها.