تشهد بلدات الجبل موسماً سياحياً في غير أوانه على أبواب فصل الشتاء، عندما «ينزح» قسم كبير من سكان هذه المناطق عادة إلى منازلهم في بيروت. إذ تدبّ الحياة في قرى تُعدّ العائلات المقيمة فيها على أصابع اليدين، وخصوصاً في مثل هذا الوقت من السنة، ولم يخطر في بال سكانها أن تكون يوماً نقطة جاذبة للسكن، كعيناب وعين عنوب وشملان ورمحالا وغيرها. إلى جانب آلاف النازحين الذين قصدوا مراكز الإيواء في الجبل، وصلت أيضاً مئات العائلات النازحة الميسورة التي استأجرت منازل وشققاً شاغرة، وتحتاج إلى ما يلبّي متطلباتها. وبما أن المؤشرات تشي بأن الحرب طويلة، نفض كثر الغبار عن دكاكين مهجورة، وملأ آخرون محالهم بالبضائع، ووسّعوا مصالحهم، أو افتتحوا مصالح جديدة، وكيّفوا نشاطهم الاقتصادي، ليس على صعيد استيعاب زيادة الطلب فحسب، بل أيضاً مع نوعية طلبات النازحين، كأن يضع محل لبيع الألبسة في ضهور الشوير «مانيكان» محجّبة في واجهته، فيما باتت عبارة «لدينا ثياب للمحجبات» معلّقة على أبواب كثير من المحالّ المشابهة، «وهناك سلع كثيرة لم نكن نهتم بها سابقاً لعدم وجود طلب عليها، أصبحنا اليوم حريصين على تأمينها»، وفق ما يقول صاحب دكان في عيناب.
في صوفر التي استقبلت «نحو ألفي نازح»، بحسب رئيس بلديتها كمال شيا، يقول صاحب محل لبيع الألبسة: «مش عم لحق بيع ثياب شتوية»، فيما ملأ أحدهم محلاً لبيع «الحراتيق» بالأدوات المنزلية الأساسية وسكاكر للأطفال التي «يزداد الطلب عليها». ويقول صاحب محل لبيع الهواتف إنه يستعدّ لتغيير الديكور «لجذب الزبائن بعدما قررتُ التوسيع وبيع إكسسوارات الهواتف إلى جانب العطور». الصخب الذي تشهده البلدة اليوم «لم تشهد له مثيلاً سابقاً بعدما حافظت تاريخياً على هدوئها بعيداً عن أجواء السياحة والسهر، وصنّفت مكاناً لاصطياف الأغنياء البيارتة والخليجيين»، بحسب شيا. وينعكس هذا الاكتظاظ السكاني انتعاشاً اقتصادياً من خلال «الفرق الكبير والواضح في الحركة الاقتصادية وخصوصاً في محال المواد الغذائية والصيدليات، وفي ارتفاع الطلب على الأغطية والملابس في المحال الصغيرة».
تروي نازحة من بيروت أن بلدة عيناب، عندما استأجرت منزلاً هناك قبل اندلاع الحرب ببضعة أسابيع، كانت «نائية، وكانت حركة الناس والسيارات خجولة، فيما المحال التجارية قليلة وقديمة وتقتصر على دكاكين لبيع المواد الغذائية وسوبرماركت واحد لا تتوفر فيه كل الاحتياجات الأساسية التي كنا نضطر إلى تأمينها من القرى المجاورة». بعد أسبوع من اندلاع الحرب، انقلبت الأمور رأساً على عقب، «فصرت أشاهد حاويات تفرغ البضائع بكثرة، وتجاراً منكبّين على فتح صناديق البضائع». الأمر نفسه ينطبق على بلدة بيصور، إذ يظهر انتعاش المبيعات من خلال «عدد الكراتين الكبير الذي تخلّفه المحال، ما يؤكد أن النزوح عامل فرق»، بحسب رئيس بلديتها نديم ملاعب. وبعد «استضافة 5 آلاف نازح بالحد الأدنى جراء الحرب، إضافة إلى 3 آلاف نازح سوري و15 ألف مقيم من أهالي المنطقة، ظهرت أزمات ترتبط بالكثافة السكانية كأزمة السير والقصور في تأمين البنى التحتية كالكهرباء والمياه التي تشح في هذا الوقت من السنة، وعدم القدرة على جمع الكميات الكبيرة من النفايات». لكنّ هناك جانباً آخر للكثافة السكانية انعكس إيجاباً على الدورة الاقتصادية في المنطقة، «فممّا لا شك فيه ازداد الطلب على الحاجات الأساسية ولا سيما الطعام والشراب، أما الطلب على غير ذلك كالمفروشات مثلاً فلا يزال محدوداً». الفورة الاقتصادية في عاليه واضحة مثل «عين الشمس»، وخصوصا في السوق حيث تنتشر العشرات من المطاعم ومحال بيع المواد الغذائية والألبسة والأحذية والإكسسوار والمفروشات وأثاث المنازل… نصف ساعة انتظار ليصلك الدور في محل لبيع المناقيش، و«لم يكن الوضع كذلك قبل مجيء أهلنا النازحين»، يبرّر معلّم الفرن للمنتظرين. مقاهي المدينة تعجّ بالنازحين الذين لا تحتاج إلى كثير من التدقيق للتعرف إليهم. تسأل سيدة محجبة موظفة «الكاش» في متجر كبير عن ثياب شتوية، فتردّ: «مش عم نلحّق لأن الطلب يفوق العرض بكثير»، فيما يتحدث تجار عن انقطاع التجهيزات المنزلية البسيطة مثل لوازم المطبخ ولمبات الشحن وخزانات القماش والبلاستيك للملابس والأحذية، بسبب كثرة الطلب.
لا يتوقف الأمر عند زيادة المبيعات، بل يتخطاه إلى زيادة الاستثمارات، فقد «ارتفع عدد المحال التجارية في عيناب بنسبة تتراوح بين 30% و40%. بعدما كان هناك محل واحد لبيع الألبسة، هناك اليوم أربعة محالّ، واستحدث سوق لبيع الألبسة الداخلية والثياب النسائية والرجالية والبيجامات والأحذية، وافتتح أول صالون تصفيف الشعر في البلدة»، بحسب أحد أهالي البلدة، فيما محالّ كثيرة مغلقة علّقت لافتات كتب عليها: «سنفتح قريباً». أحد التجار لا يخفي سعادته بهذه الحركة لأن «ما بعته خلال شهر لا أبيعه عادة خلال سنة»، وهو ما ينعكس حفاوة من أصحاب المحالّ الذين «يعدوننا بتأمين أيّ طلب غير موجود في أسرع وقت»، كما ينقل عدد من النازحين.
ورغم أن الدورة الاقتصادية تعمل في اتجاه واحد، إذ تتشدّد البلديات في الطلب من الأهالي «عدم تأجير محالهم قبل إعلام البلدية بهوية المستأجر»، وذلك «لتفادي الحساسيات التي قد تقع بين النازحين وأصحاب المصالح من أبناء المنطقة عندما يشعرون بالمنافسة»، كما يعلّل ملاعب، إلا أن ذلك جعل عبء النزوح على بعض مناطق الجبل أقلّ وطأة، وقلّل من الحساسيات التي كان يُخشى منها مع بداية النزوح.