موظفو الدولة يدّعون الإضراب… ويبتزّون الناس

ليس جديداً أن يحتاج إتمام معاملة، في الإدارات العامة في لبنان أو تسريع إنجازها، إلى “شوفة خاطر” للموظف المختص، أي مبلغ من المال يُحدد بحسب دسامة المعاملة. فهذا الامر كان سارياً قبل الازمة، ولبنان إحتل مرتبات متقدمة على لوائح الدول الأكثر فساداً في العالم بسبب هذه الظواهر وغيرها. لكن الجديد هو أن يصبح المواطن، مُلزماً في زمن الاضراب العام للإدارة العامة، أن يدفع رشوة باهظة لإنجاز معاملته، تفوق بأضعاف مضاعفة الرسوم التي تحددها الدولة لإنجازها، ولا خيار أمامه إلا الدفع (وبالدولار أحياناً).

القصص التي تُحكى عن هذه الظاهرة كثيرة، وهي ليست مقتصرة على التجار، الذين يلجأون للرشوة لإخراج بضائعم من المرفأ مثلاً، بل على طلاب ومغتربين يريدون إنجاز»إخراج للقيد» أو معادلة شهاداتهم الجامعية قبل سفرهم.

مليون ليرة لتصديق معاملة في “الخارجية”

يروي عيسى حرب (طالب يدرس الطب في رومانيا) لـ»نداء الوطن»، أنه إضطر لدفع مليون ليرة، كرشوة لتصديق شهادته في وزارة الخارجية، لأنه من دونها لا يمكن إكمال إختصاصه. وحين سأل عن كلفة هذا الختم بحسب «التسعيرة الرسمية» للدولة كان الجواب هو 50 ألف ليرة فقط».

مليون ونصف المليون لإخراجات القيد

على مقلب إخراجات القيد، فالأسعار نار أيضاً. إذ تخبر سوزان حمد «نداء الوطن»، أنها دفعت مليون ونصف المليون ليرة كلفة إنجاز إخراجي قيد لولديها، وحين سألت المختار عن سبب إرتفاع المبلغ، كون كلفة إخراج القيد في العادة لا تزيد على 50 ألف ليرة، أجابها: «بدنا نشوف خاطر أكتر من موظف»، لافتة إلى أنها «إضطرت للدفع لأنها تحتاج إلى إخراجات القيد في معاملة تعديل شهادات ولديها المدرسية، كونهما يدرسان خارج لبنان».

تاجر: يضعون سمساراً بيننا وبينهم

يروي أحد تجار السيراميك الكبار لـ»نداء الوطن»، أن «أعمالهم تتعرقل بشكل كبير، إذا لم يدفعوا رشى لموظفي القطاع العام لإنجاز معاملاتهم، سواء لإخراج بضائعهم من المرفأ، أو لإتمام إجراءات تجارية أخرى في لبنان»، لافتاً إلى «أنهم كتجار غير متفاجئين، بطلب الرشوة من الموظفين، وغالباً ما يتم الامر عبر سمسار موجود في كل إدارة. لكن الجديد هو إرتفاع المبالغ المطلوبة وبالدولار، وإصرارهم على عدم إنجاز المعاملات إذا لم يتم إعطاؤهم المبلغ المطلوب، تحت عنوان زعم الاضراب العام».

في كل القطاعات تقريباً

في المقابل لا يجوز التعميم بأن جميع موظفي القطاع العام مرتشون، بل إن قسماً منهم يداوم في مكاتبه ليوم في الاسبوع لتسيير أمور المواطنين. إلا أن تناقل اللبنانيين لقصص الرشوة المتفشية في إدارات الدولة ليس من فراغ. ولا سيما في الدوائر العقارية ومصالح تسجيل السيارات، في المرفأ وقطاعات الكهرباء والمياه والاتصالات والضمان. حيث تتعدّد أشكال الفساد ودرجاته.

إستنزاف لخزينة فارغة!!

في البعد الإقتصادي – المالي، فإن إنتشار الرشوة بشكل كبير حالياً، يعني أن الموظفين المرتشين يستنزفون خزينة الدولة الفارغة أصلاً، وينهبون المال العام وهم المستفيدون الأساسيون مما يجري، ومن ورائهم المنظومة السياسية التي تحميهم. كما يستنزفون المواطنين المضطرين لمعاملات تسيير امورهم.

يشرح الباحث الاحصائي الدكتور عباس طفيلي، لـ»نداء الوطن» أن «ما يجري اليوم من تفشي الرشوة في الادارات العامة بشكل علني، دليل على أن الشعب اللبناني ترك لمصيره، سواء أكانوا موظفين في الادارة العامة، أو المواطن العادي الذي يضطر الى اللجوء إلى الرشوة لتيسير أموره. فما يحصل هو ان الموظفين يستغلون حاجة الناس، وهؤلاء هم أزلام السياسيين ومعينين من قبلهم، والعنوان الاساسي هو أن الشعب اللبناني تُرك لمصيره وعليه تدبير أموره بنفسه».

يضيف: «النقطة الثانية ان مؤسسات الدولة التي تدخل أموالاً إلى الخزينة العامة، مثل مصلحة السير وتسجيل السيارات تسيّر أمورها من دون حسيب ولا رقيب. والموظف الذي يُجري المعاملات على أساس دولار الـ1500 ليرة، لا ينجز المعاملة إلا إذا تلقى رشوة من المواطن بالدولار، وهذه المبالغ تخسرها خزينة الدولة». مشدداً على أنه «من هذه النقطة يمكن الولوج إلى تسعيرة الدولار في المعاملات الرسمية، والمطلوب ليس أن يقر دولار جمركي على مبلغ 20 ألف ليرة، بل يجب تعديل معادلات ورسوم الدولة بحسب التطورات والسوق الحالي».

وظيفة جديدة: مخلص معاملات

وحول المستفيد من إنتشار الرشوة بشكل واسع، يؤكد طفيلي أننا «في الانهيار ونعيش على التنفس الاصطناعي، الذي يؤمنه الحاكم رياض سلامة من خلال أموال الاحتياطي الالزامي بالتواطؤ مع الطبقة السياسية. وحالياً مصروف الدولة في ظل الانهيار، بات أقل من مليار دولار في العام»، مشيراً إلى أن «المستفيد الاول هم الطبقة السياسية لأنها تريد شراء الوقت من دون القيام بحلول، وبالتالي أننا ذاهبون أكثر فأكثر نحو إعتماد الاساليب الملتوية والفساد. وسنخلق سماسرة يعيشون من جيوب المواطن المسحوق». ويتوقع أن «تظهر وظيفة إسمها تخليص المعاملات في القطاعات العامة، وخلق نظام بديل بطريقة سيئة، على غرار ما حصل في الكهرباء (المولدات الخاصة)، وأزمة الدولار عبر الصيرفة والسوق السوداء. والآن جاء دور الرشوة في القطاع العام، كبديل عن تسييره بشكل طبيعي».

يبدي طفيلي «تخوفه من أن تطال الفوضى القوى الامنية، بسبب غياب الرقابة وإلحاح الحاجة، ولا سيما على مستوى العناصر الصغيرة»، لافتاً إلى أن «الرشوة قد تمتد إليهم لتشمل مخالفات كبيرة، ونحن ذاهبون نحو تحلل تام للدولة، وتسيير المعاملات للذين يدفعون أكثر».

ويوضح أنه «لا أرقام دقيقة حول إيرادات الدولة في المعاملات الرسمية في هذه الحكومة، وفي الحكومات السابقة الارقام ضبابية»، شارحاً أنه «يمكن الاستدلال على حالة الافلاس التي تعيشها الدولة، من خلال غياب القرطاسية مثلاً وعدم وجود أوراق لإخراجات القيد، وهذا يعني أن هذه الخدمات لا تجلب واردات للدولة».

ويؤكد أن «الحل هو بإعتماد الحكومة الالكترونية، والمجتمع الدولي مستعد لتمويل المكننة، وundp قامت بمشاريع عديدة في اكثر من وزارة. هذا الامر يساهم في محاربة الفساد، ويخفف عن الدولة المصاريف. والمشروع جاهز وموجود في أدراج مجلس النواب».

التسيير بالرشوة لا يلغي شلل القطاع العام

في الميزان المالي- القانوني تشرح أستاذة القانون المتخصصة بالشأن المصرفي الدكتورة سابين الكك، لـ»نداء الوطن»، أن ظاهرة الرشوة موجودة في الادارة اللبنانية قبل الازمة. وهناك موظفون بالرغم من الاضراب الحالي، يحاولون تسيير أمور الناس قدر الامكان، ويتحملون المسؤولية تجاه المواطن»، لافتة إلى أن انخفاض القدرة الشرائية للموظف بشكل كبير، كان سبباً في تفشي هذه الظاهرة بصورة أكبر لا مبرر لها بالتأكيد، ولكن هذه هي الاسباب».

تضيف: «الادارة العامة تعيش حالياً حالة شلل تام. ووجود هذا النوع من الخدمات المرتبط بالرشوة، لا يزيل حالة الشلل في الادارة العامة، وستظل هذه الحالات فردية وخاصة، ولا تؤدي إلى تسيير المرفق العام بالشكل المطلوب»، مؤكدة أن «الشلل الموجود في الادارة العامة غير مقبول. وأي خطة تضعها أي حكومة للقطاع العام، لا تبدأ بإعادة تفعيل الادارة العامة هي ناقصة ومبتورة».

صندوق النقد وتقليص القطاع العام

وتشرح أن «صندوق النقد الدولي لم يطلب تقليص حجم القطاع العام، ( بالرغم من ورود هذا البند في خطة التعافي)، لأنه يعرف أن هناك أزمة حادة في البلد، مع ضعف في شبكة الامان الاجتماعي. ما طلبه هو إعادة هيكلة بمعنى تفعيل هذا القطاع، وإعادة توزيعه لكي تصبح إنتاجيته ومردوده أكبر، وفي نفس الوقت يؤمن الحماية الاجتماعية للناس». مشددة على أنه «ليس صحيحاً أن المطلوب هو خسارة الناس لوظائفها، بل إعادة تفعيل هذا القطاع العام وإلا عبثاً أي محاولة أو أي خطة إنقاذية».

تضيف: «حين يتم تسليط الضوء على القطاع السياحي الناشط في لبنان، لا يعني أن هذا القطاع قادر على بناء الدولة. فالمرتكزات الاساسية لأي دولة هي القطاعات الصحية والتعليمية والادارة العامة، التي من مهماتها تسيير أمور الناس، وتفعيل الجباية والحفاظ على موارد الدولة وزيادة النفقات»، مؤكدة أنه «طالما القطاع العام في شلل، وبالرغم من بعض «المخالفات التي يقوم بها بعض الأشخاص»، فان الانقاذ والخروج من هذا الوضع، يحتاج إلى خطة ومنهجية وإستراتيجية».

وعما إذا كان إعتماد الحكومة الالكترونية في هذا الظرف هو الحل، تقول الكك: «العالم يقف اليوم على مفترق طرق، نحو العالم الرقمي بشكل واسع والحكومات الرقمية. والاتجاه نحو حكومة وصناعة وإنتاج وتعليم رقمي». موضحة أن «اليوم هناك مشكلة في كلفة التنقل كبيرة على المواطن، فلو كنا نملك خدمات رقمية، لكنا خففنا عن كاهله هذه الكلفة، في ظل البيروقراطية السائدة في الادارة اللبنانية».

وتؤكد «أننا بحاجة إلى إستراتيجية للإدارة العامة، والمشكلة لا تقتصر فقط على الفساد السائد، بل إن تسهيل المعاملات والانتقال الى إدارة عامة رقمية، هي واحدة من أساليب مكافحة الفساد والحوكمة والشفافية، لأنه لا يعود هناك تواصل مباشر بين الموظف والمواطن، وهذه الخطة يجب أن تكون في طلب الرؤية لتطوير الإدارة العامة في لبنان».

يشوعي: تجزئة الرسوم… واحدة للدولة وأخرى للموظف

في الميزان الاقتصادي، يقترح الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي عبر «نداء الوطن»، أن «تتم تجزئة الرسوم التي تتقاضاها الدولة لإنجاز المعاملات الرسمية، إلى جزأين: الاول رسوم للدولة والثاني أتعاب الموظف، عندها يخف الهدر والسرقة والرشوة من قبل الحكومة المركزية، وتعطى الحقوق لأصحابها مباشرة»، مشدداً على أن «تحديد التعريفات في الادارات الرسمية، يسهل إنجاز الامور خصوصاً في الادارات التي تستقبل إنجاز معاملات بأعداد كبيرة، أما ادارات الدولة التي ليس فيها ضغط لإنجاز المعاملات، فيتم وضعهم ضمن إطار جدول معاشات شهري، وهذا يخفف عن الدولة تأمين الاموال للموظفين».

ويختم: «إننا نعيش في حالة «اللادولة ولبنان إنتهى، والمطلوب التفتيش عن صيغة جديدة. ومجلس النواب الحالي سينتخب رئيساً جديداً للجمهورية على شاكلته، ولا سبيل معهم لأي إنقاذ للبلاد».

 

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقة10 أسباب تدفع الدولار لاستئناف صعوده الصاروخي
المقالة القادمةردّ الودائع… خطة قائمة “على الوعد يا كمّون”!