حسب الميزانيّات، تراجعت حسابات رأس المال، أي رساميل القطاع التي يمتلكها أصحاب المصارف، من 19.93 مليار دولار في نهاية العام 2020 إلى 17.74 مليار دولار في نهاية العام 2021، ما يعني أن حجم الرساميل تراجع خلال عام واحد بنسبة 11%، عوضًا عن الارتفاع بنسبة 20% كما طلبت تعاميم مصرف لبنان. وهذا التراجع السنوي في حجم الرساميل، الذي تبلغ قيمته نحو 2.19 مليار دولار، يعود بشكل أساسي إلى المؤونات التي بدأت المصارف بتكوينها للتعامل مع الخسائر الناتجة عن قروض القطاع الخاص المتعثّرة، وعن توظيفاتها في سندات الدين العام. وعلى أي حال، الخلاصة الأساسيّة التي يمكن استنتاجها هنا، هي أن تعاميم مصرف لبنان فشلت بشكل فادح في تحقيق ما وعد به الحاكم: البدء بإعادة رسملة المصارف.
حجم الرساميل كما في نهاية العام 2021، البالغ 17.74 مليار دولار، يعني هنا أن المصارف ستخسر نحو 73% من الرساميل، في حال تم شطب نحو 13 مليار دولار من هذه الرساميل كما تنص الخطّة الماليّة الأخيرة التي أعدتها حكومة ميقاتي. وهذه المسألة تعني ببساطة أن العديد من المصارف قد تواجه تحدّي تغيّر هويّة الأشخاص الممسكين بقرارها، أو الذين يملكون أغلبيّة الأصوات في جمعيّات مساهميها العموميّة، إلا في حال نجح أصحاب هذه المصارف الحاليين بتعويم الرساميل عبر تأمين “دولارات محليّة” من الودائع الموجودة في النظام المصرفي حاليًّا.
ولهذا السبب تحديدًا، تشير العديد من المصادر المصرفيّة إلى أن سبب عدم قيام أصحاب المصارف بزيادة الرساميل خلال العام 2021 يرتبط بانتظارهم الصيغة النهائيّة لخطة الحكومة الماليّة، لتأمين القدر المطلوب من الرساميل الكفيلة بحفاظهم على سيطرتهم على مصارفهم، بعد الاقتصاص من الرساميل الحاليّة. وبهذه الطريقة، يتفادى أصحاب المصارف تأمين الرساميل الإضافيّة قبل تطبيق الخطّة، لتفادي تعريض هذه الرساميل للاقتصاص عند دخول الخطّة حيّز التنفيذ.
بموازاة استنزاف الرساميل وعدم زيادتها، تستمر عمليّة تصفية القروض والودائع القائمة بشكل متدرّج. فحجم القروض الممنوحة للقطاع الخاص، والتي بلغت حدود 36.17 مليار دولار في نهاية العام 2020، لم تبلغ أكثر من 27.71 مليار دولار في نهاية العام 2021، ما يعني أن حجم هذه القروض تراجع بنحو 23.38% خلال عام واحد، وبقيمة توازي 8.46 مليار دولار. مع الإشارة إلى أن تراجع حجم القروض بهذه الوتيرة السريعة، يعود بشكل أساسي إلى لجوء المودعين لاستخدام الشيكات المصرفيّة وشراء بعض الأصول العقاريّة من المقترضين، في محاولة لتفادي الاقتصاص من قيمة ودائعهم في المستقبل. وهذه العمليّة بحد ذاتها، مثّلت إحدى أشكال تكبيد المودعين جزءاً من خسائر الأزمة، نتيجة الفارق بين قيمة العقارات الفعليّة، وقيمة شرائها بالشيكات المصرفيّة.
على أي حال، وبموازاة تصفية القروض، استمر التراجع التدريجي في قيمة الودائع المتبقية في القطاع المصرفي، والتي بلغت قيمتها نحو 134.47 مليار دولار في نهاية العام 2021، مقارنةً مع 144.62 مليار دولار في ختام العام السابق. بمعنى آخر، تراجع حجم الودائع الموجودة في القطاع خلال سنة واحدة بنسبة 7.02%، وبقيمة ناهزت 10.15 مليار دولار، أي بقيمة تفوق قيمة التراجع في حجم القروض المصرفيّة. مع العلم أن جزءاً أساسياً من هذا التراجع في حجم الودائع يعود إلى السحوبات من الودائع المصرفيّة المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف مجحفة ومتفاوتة، تكبّد المودعين نسبة من الاقتصاص من قيمة ودائعهم عند سحبها نقدًا. وتجدر الإشارة هنا إلى قيمة الودائع المتبقية بالعملة الأجنبيّة تحديدًا، انخفضت لتلامس حدود 102.82 مليار دولار في ختام العام الماضي، بتراجع قيمته 9 مليار دولار مقارنةً مع العام السابق.
في النتيجة، ومع استمرار التراجع في قيمة الودائع والقروض، تحافظ توظيفات المصارف في المصرف المركزي على قيمتها، وهي ما يمثّل استثمارات المصارف في شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان. وهذه الاستثمارات بالتحديد، التي تمثّل أكثر من ثلثي قيمة الودائع الموجودة في المصارف، هي تحديدًا ما يسمح للمصارف بالاعتياش اليوم على حساب المال العام، بدل أن تحافظ على استمراريّتها من النشاط المصرفي الطبيعي. بمعنى آخر، مصرف لبنان يخلق النقد اليوم، لينفق هذا المال كي تبقى على المصارف على قيد الحياة، على حساب ميزانيّة المصرف المركزي، وعلى حساب قيمة الليرة.