خلال الأسبوع المنصرم، أصدر مصرف لبنان كعادته –في بداية ومنتصف كل شهر- بيان الوضع المالي نصف الشهري للمصرف، الذي يلخّص أهم بنود الميزانيّة، مثل قيمة احتياطات الذهب واحتياطات العملة الأجنبيّة والنقد المتداول بالليرة وديون القطاع العام للمصرف وغيرها. بيان الوضع المالي، أظهر استمرار بعض الأنماط التي شهدتها ميزانيّة المصرف منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة، مثل تزايد احتياطات النقد الأجنبي. كما أظهر استمرار تقلّص النقد المتداول بالليرة، إلى حد بات يسمح لمصرف لبنان –إذا أراد- بالحفاظ على سعر صرف شبه ثابت لليرة، هذا إذا افترضنا التزام قيادة المصرف بعدم التوسّع بخلق النقد بالليرة لتسليف الليرة.
في المقابل، أظهر بيان الوضع المالي تراجعًا محدودًا في قيمة احتياطات الذهب الموجودة بحوزة المصرف المركزي، بعدما شهدت قيمة هذه الاحتياطات تزايدًا كبيرًا طوال الأشهر الماضي، بفعل ارتفاع أسعار الذهب عالميًا. غير أن هذا التراجع المحدود –خلال الشهر الراهن- لم يؤثّر على الأرباح “الذهبيّة” الكبيرة التي حققها المصرف خلال السنة الماضية.
قيمة النقد المتداول بالليرة
خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، تمكّن المصرف المركزي من امتصاص ما يقارب 893 مليار ليرة لبنانيّة من النقد المتداول في السوق، ليستقر حجم النقد المتداول حاليًا عند حدود 57.2 ألف مليار ليرة لبنانيّة. مع الإشارة إلى أن قيمة النقد المتداول بالليرة كانت توازي أكثر من 80.17 ألف مليار ليرة، في بدايات العام الماضي، ما يعني أن المصرف المركزي تمكّن من تخفيض قيمة الكتلة النقديّة بنسبة 29% خلال فترة سنة واحدة. وتحقق هذا الانخفاض نتيجة استيفاء الرسوم والضرائب بالنقد الورقي أولًا، ونتيجة بيع الدولارات من قبل المصرف المركزي مقابل النقد الورقي خلال حقبة رياض سلامة ثانيًا.
الملفت للنظر حاليًا، هو أن قيمة النقد الورقي المتداول بالليرة باتت توازي –حسب سعر صرف السوق الموازية- أقل من 643 مليون دولار فقط. في المقابل، كان مصرف لبنان قد تمكّن من زيادة موجوداته الخارجيّة، بالعملة الأجنبيّة، بأكثر من 743 مليون دولار منذ مغادرة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة لمنصبه، بفعل توقّف المصرف عن ضخ الدولارات عبر منصّة صيرفة، وامتناعه عن تمويل الدولة من الاحتياطات، بالإضافة إلى عمليّات شراء فائض الدولار من السوق الموازية.
تثبيت مقنّع لسعر الصرف؟
بهذا الشكل، بات مصرف لبنان قادراً -من الناحية النظريّة- على تأمين الدفاع عن سعر الصرف الحالي بشكل مستدام، باستخدام فائض الدولارات التي أضافها إلى الاحتياطات، ومن دون المس بالاحتياطات التي كانت موجودة عند مغادرة سلامة لمنصبه. أي بصورة أوضح، بإمكان مصرف لبنان (ومجددًا، من الناحية النظريّة) شراء كامل النقد المتداول بالليرة حاليًا، أي بيع الدولارات مقابل قيمة هذا النقد، على سعر صرف السوق الحالي، وباستخدام الزيادة المحققة في قيمة احتياطاته. غير أنّ تطبيق هذه الآليّة في الدفاع عن سعر الصرف –التي تشبه شكلًا من أشكال آليّة مجلس النقد- يستلزم الانضباط والالتزام بعدم تضخيم الكتلة النقديّة، عبر تسليف الدولة وتغطية عجزها.
من المبكر طبعًا الجزم والافتراض بأن مصرف لبنان يتجه لتثبيت سعر الصرف بهذا الشكل، وما أشرنا إليه يبقى تحليلًا لنوايا السياسة النقديّة التي يعتمدها المجلس المركزي للمصرف. غير أنّ السياسة النقديّة القائمة اليوم، تمزج ما بين الدفاع عن سعر الصرف الحالي بشكل مستمر، مع مراكمة الاحتياطات بشكل تدريجي وثابت، كما أنّها تلتزم بقيود عدم تسليف الدولة وعدم تضخيم الكتلة النقديّة. وهذه العوامل الثلاثة، قد تفضي في النهاية إلى سياسة نقديّة “تُثبّت” سعر الصرف عند مستواه الحالي، باستخدام الآليّة التي أشرنا إليها. ولو تم ذلك لاحقًا عبر آليّة تؤمّن تداول الدولار بشكل حر في السوق، وتبقي على قدرة المصرف المركزي على التدخّل لحماية سعر الصرف عند اللزوم، ومن دون قوننة الآليّة بوصفها “مجلس نقد”.
ومن المهم الإشارة إلى “تثبيت” سعر الصرف على هذا النحو، يختلف بشكل جذري –من ناحية الأدوات والنتائج- عن آليّات تثبيت سعر الصرف –سيّئة السمعة والنتائج- التي تم اعتمادها قبل حصول الأزمة الماليّة الراهنة. فنحن نتحدّث هنا عن هامش محدد وصغير من الاحتياطات، يتم تخصيصه للدفاع عن سعر الصرف، مقابل كتلة نقديّة محدودة ومحدّدة من العملة المحليّة، مع قيود تمنع التوسّع في خلق النقد أو إقراض الدولة.
وعلى أي حال، وكما أشرنا سابقًا، يبقى كل ما سبق ذكره مجرّد احتمال، أو فرضيّة أشار إليها العديد من المراقبين، بانتظار تبيّن الوجهة النهائيّة للسياسة النقديّة المعتمدة من مصرف لبنان.
احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة
خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، تراجعت قيمة احتياطات الذهب الموجودة بحوزة مصرف لبنان بنحو 227 مليون دولار أميركي، جرّاء تقلّب أسعار الذهب في الأسواق العالميّة. غير أنّ هذا التراجع ما زال محدودًا، مقارنة بالمكاسب الضخمة التي حققها المصرف المركزي خلال العام الماضي، والتي قاربت حدود 3.28 مليار دولار في نهاية تشرين الأوّل 2023، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق 2022. وعلى أي حال، وبحلول منتصف الشهر الحالي، باتت قيمة احتياطات الذهب في ميزانيّة مصرف لبنان تقارب مستوى 18.9 مليار دولار، وهو ما يوازي 17.6% من إجمالي حجم الميزانيّة للمصرف.
أمّا احتياطات العملات الأجنبيّة، فاستمرّت بالزيادة في النصف الأوّل من الشهر الحالي، وإن بمستوى متواضع جدًا يقارب حدود 3.6 مليون دولار أميركي. غير أن أهميّة هذه الزيادة، وإن كانت متواضعة، تكمن في إشارتها إلى أنّ المجلس المركزي للمصرف ما زال ملتزمًا بسياسة الامتناع عن الإنفاق من الاحتياطات في الوقت الراهن، وبشكل صارم للغاية. وكما أشرنا أعلاه، بات حجم الزيادة في احتياطات العملات الأجنبيّة، مقارنة بحجمها عند مغادرة سلامة لمنصبه، يقارب حدود 743 مليون دولار.
في النتيجة، ما زالت الأرقام المتاحة تُظهر تقدّمًا لافتًا على مستوى إدارة الاحتياطات والاستقرار النقدي، مقارنة بحقبة السياسات النقديّة المشبوهة التي انتهجها الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة، والتي طغت عليها ممارسات غير مفهومة الأهداف والفعاليّة، مثل إطلاق منصّة صيرفة. غير أن تقييم السياسة النقديّة الراهنة، ولو شكّلت تقدمًا مقارنة بما سبقها، غير ممكن قبل إطلاق أهم ركن من أركانها، أي أداة التداول الحر بالعملات الصعبة، والتي يفترض أن تضع إطار تدخّل المصرف المركزي في السوق، وأن تتكامل مع سائر المعالجات المصرفيّة والماليّة.