ليس من مؤشّر أفضل من ميزان المدفوعات قادرٍ على تتبّع مآلات الأزمة النقديّة والماليّة في لبنان. فهذا الميزان يلخّص صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج في مدة معيّنة. وفي الأصل، كان توالي العجوزات السنويّة في هذا المؤشّر، ابتداءً من العام 2011، الإشارة الأولى إلى حصول انقلاب في موازين التدفّقات الماليّة بين لبنان والخارج. وهذا ما مهّد للانهيار الذي شهده النموذج الاقتصادي لاحقًا. مع الإشارة إلى أنّ هذا النموذج لطالما استفاد من فوائض ميزان المدفوعات قبل العام 2011، لتمويل تضخّم القطاع المصرفي وتوظيفاته في الدين العام، وتثبيت سعر الصرف.
البداية الصامتة
بعد بدء ميزان المدفوعات بتسجيل العجوزات السنويّة المتتالية من العام 2011، بدأت الخسائر تتضخّم بصمت داخل النظام المالي، مع استمرار الإنفاق من احتياطات المصرف المركزي، وصولًا إلى انفجار الأزمة على مصراعيها عام 2019.
أمّا اليوم، فبات عجز ميزان المدفوعات الدلالة الأبرز على التحوّلات في حركة السيولة التي تجري عبر الحدود سنويًّا، وعلى الفارق بين ما يرد إلى لبنان من عملات صعبة وما يخرج منه. وهذه الموازين، هي تحديدًا ما يحدد مآل الوضع النقدي لجهة توفّر العملة الصعبة القادرة على ضبط التدهور في سعر صرف الليرة، ناهيك عن توفّر التحويلات الماليّة الواردة القادرة على إنعاش النظام المالي في المستقبل، بعد معالجة خسائره.
وفي خلاصة الأمر، بات كل ارتفاع في عجز ميزان المدفوعات اليوم، يعني ببساطة ارتفاع قيمة الدولارات التي يحتاجها لبنان لردم الفجوة بين تحويلاته الواردة والصادرة، التي تعني الكثير بالنسبة إلى جوهر أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني.
الفجوة تنخفض…ثم ترتفع
تشير الأرقام التي صدرت مؤخّرًا عن مصرف لبنان، إلى أنّ عجز ميزان المدفوعات بلغ في أواخر شهر نيسان حدود 1.7 مليار دولار، مقارنًة بنحو 1.39 مليار دولار فقط خلال الفترة المماثلة من العام الماضي، ونحو 1.3 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2020. مع الإشارة إلى أن هذا العجز كان قد بلغ مستويات أعلى بكثير خلال الفترة إياها من العام 2019، يوم سجّل مستويات تخطّت 3.3 مليار دولار لحدود نهاية شهر نيسان (يومها لم تكن البلاد قد دخلت مرحلة الأزمة المصرفيّة والقيود على التحويلات إلى الخارج). بمعنى آخر، وإذا أردنا وصف تحوّلات ميزان المدفوعات، يمكننا تلخيصها على الشكل التالي: شهد العجز في هذا الميزان انخفاضًا بنسبة 60 في المئة بين عامي 2019 و2020، قبل أن يعود إلى الارتفاع بشكل متدرّج في العامين الأخيرين.
من ناحية تحليل الأرقام المتوفّرة، يمكن تفسير هذه التحوّلات بسهولة. فدخول البلاد في الأزمة المصرفيّة منذ تشرين الأوّل 2019 ساهم في تخفيض عجز ميزان المدفوعات بشكل قاس خلال العام 2020، بعد أن منعت الأزمة أصحاب الودائع من الاستفادة من حساباتهم المصرفيّة لإجراء التحويلات في اتجاه الخارج. ومع خروج البلاد من أزمة وباء كورونا، وما رافقها من حالات إقفال شاملة، عاد الطلب على السلع المستوردة إلى الارتفاع خلال العام 2021. وهذا ما دفع عجز ميزان المدفوعات إلى الارتفاع بشكل محدود، بسبب ارتفاع قيمة التحويلات التي ذهبت لتمويل الاستيراد. كما عاد هذا العجز ليسجّل ارتفاعات إضافيّة ووازنة هذه السنة، نتيجة الارتفاع في أسعار السلع المستوردة، بفعل تضخّم أسعار المواد الأساسيّة على المستوى العالمي.
في النتيجة، ومع ارتفاع عجز ميزان المدفوعات، يرتفع محليًّا الطلب على العملة الصعبة نتيجة توسّع الفارق بين ما يخرج من لبنان من دولارات وما يرد إليه منها. وهذا العجز، قد لا يبرّر وحده التدهور السريع في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، والذي يتأتّى جزء كبير منه من مضاربات السوق المحليّة، لكنّه يعني حتمًا استمرار الضغط على سعر صرف العملة المحليّة خلال الفترة المقبلة، لتغطية الطلب على الدولار الناتج عن الحاجة للاستيراد.
طريق المعالجة معقّد
طريق المعالجة معقّد ومتشعّب، ولا يمكن أن يختزله التعامل مع جانب واحد من جوانب الأزمة القائمة اليوم. نقطة البداية تكمن حتمًا في تصويب الخطة التي تريد البلاد العمل عليها للخروج من الأزمة، بحيث تستهدف إعادة هيكلة الاقتصاد المحلّي، لا مجرّد التعامل مع الخسائر المصرفيّة. وإعادة هيكلة الاقتصاد، تعني البحث عن القطاعات المنتجة القادرة على تأمين إيرادات من العملة الصعبة من الخارج، للخروج من نفق أزمة العجز التجاري. أي الفرق بين قيمة الواردات والصادرات. وهنا بالتحديد، تأتي المعالجة الأساسيّة لمكامن الخلل البنيويّة التي حكمت النموذج الاقتصادي اللبناني، والتي أدّت إلى انهيار القطاع المالي بأسره منذ العام 2019. وبمعالجة هذا الجانب من الأزمة، يمكن الاطمئنان لوجود حل جذري لأزمة عجز ميزان المدفوعات على المدى الطويل، بدل الاضطرار للقيام بمعالجات موضعيّة وموقتّة.
بالتوازي، مع هذه المعالجات البنيويّة، يُفترض أن تسعى الخطة لمعالجة فجوة الخسائر الموجودة في الميزانيّات المصرفيّة بشكل جذري، ليتمكّن القطاع من استعادة الثقة ومن ثم استعادة التحويلات الأجنبيّة الواردة إليه، بالاستفادة من نشوء قطاعات إنتاجيّة قادرة على استقطاب هذه التحويلات. وهنا يمكن النظر بشكل نظام القطع الذي يمكن اعتماده، بما يسمح لسعر الصرف بالتغيّر وفقًا لحسابات العرض والطلب، من دون الاضطرار لتبديد احتياطات النظام المالي في عمليّة الدفاع عن سعر صرف العملة المحليّة.
هذه الخريطة، تحتاج طبعًا لخطة تعافي متكاملة وصلبة. وهذا ما لم يتم العمل عليه بعد، في ظل حصر خطة التعافي المطروحة بمعالجات القطاع المصرفي، واقتصار سائر جوانبها على بعض البنود الفضفاضة. أمّا الكارثة الكبرى، فتكمن اليوم في إمكانيّة الإطاحة بهذه الخطّة نفسها، واستمرار سير البلاد في طريق الانهيار بغياب أي استراتيجيّة للنهوض المالي والاقتصادي، ما يعني مفاقمة جميع مؤشرات الأزمة الحاليّة.