لن يكون الانتقال إلى مرحلة ما بعد رياض سلامة، أمراً سهلاً على قوى السلطة التي اعتادت أن يكون سلامة أمامها وفي ظهرها دائماً، إذ إن نواب الحاكم الأربعة، قلبوا جدول الأعمال الذي رسمه سلامة خلال سنوات الأزمة، مطالبين بأن تتحمّل هذه القوى بعضاً من المسؤولية، وأن تقرّ، بالحدّ الأدنى، قانوناً لتغطية الإنفاق من ما يُسمّى «الاحتياط الإلزامي بالعملات الأجنبية». سريعاً، تحوّل المطلب إلى كرة نار تقاذفتها أطراف السلطة التي فشلت في عقد جلسة لمجلس الوزراء لتعيين حاكم جديد. وبات الجميع أمام خيار الفراغ في الحاكمية، أو التفاوض مع النائب الأول وسيم منصوري على شروط حلوله محلّ سلامة وأوّلها التغطية القانونية للإنفاق من الاحتياط.
هذا الأمر كان محور الاجتماع الذي عُقد أمس بين ميقاتي والنواب الأربعة. ففي خطّتهم التي عُرضت في لجنة الإدارة والعدل النيابية، طالب نواب الحاكم، بتغطية قانونية (قانون لإقراض الدولة) لاستعمال مبلغ 200 مليون دولار شهرياً بسقف 1.2 مليار دولار لستة أشهر، من أجل تسديد رواتب القطاع العام وبعض متطلّبات الدولة الأخرى فضلاً عن مبلغ يُستعمل للتدخل في سوق القطع دفاعاً عن الليرة. لكنّ الخيارات التي عرضها ميقاتي عليهم تضمّنت إقراض الحكومة للدولارات، أو إقراضها لليرات أيضاً، إذ تبيّن أن رأياً استشارياً صدر عن مجلس شورى، يطلب إثبات تطبيق بعض مواد قانون النقد والتسليف قبل أي نقاش في مضمون إقراض الحكومة للدولارات من الاحتياطات. وأتى هذا الرأي، خلافاً للرأي القديم الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، والذي يتيح لمصرف لبنان إقراض الدولة بالدولار بإجازة تشريعية وضمانة الخسارة المحتملة.
وبحسب مصادر مطّلعة على الجلسة، فإن ميقاتي اقترح تقليص المبلغ إلى 100 مليون دولار شهرياً لفترة 4 أشهر، من دون أن يناقش توزيع هذا المبلغ، ورغم علمه أن رواتب القطاع العام تبلغ 80 مليون دولار شهرياً، وأن قيمة دعم الدواء تبلغ 30 مليون دولار شهرياً. وأبلغهم ميقاتي أن سلامة ضمن له تأمين رواتب شهر آب للقطاع العام، ما يمنح النواب الأربعة بعد تسلّم منصوري محل الحاكم، أربعة أسابيع لتأمين الدولارات اللازمة لتغطية الرواتب والأجور للشهر التالي، سواء باقتراض الحكومة من الاحتياط بالدولار، أو باقتراضها بالليرة وشراء الدولارات من السوق من دون المساس بالاحتياطات.
لم يؤدّ الاجتماع إلى نتيجة واتفاق واضحين على المبلغ والآلية لإقرار التغطية القانونية، سواء باللجوء إلى مجلس النواب للاقتراض بالدولار، أو الاكتفاء بقرار حكومي يسمح بالاقتراض بالليرة، وهو ما أكّده نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي لـ«الأخبار». وتقول المعلومات، إن نواب الحاكم بدوا في الاجتماع أمس قلقين من تلاعب قد يقوم به سلامة في السوق يخلق «خضّة»، رغم كل الضمانات التي قدّمها لهم ميقاتي في الجلسة.
في الواقع، إن استشارة مجلس الشورى التي صدرت بخصوص اقتراض الحكومة بالدولار من الاحتياطات، تُصنّف ضمن الرأي السلبي الذي لا يريد أن يتحمّل مسؤولية. فهي لم تحدّد قواعد ونطاق تطبيق المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تتعلق باقتراض الحكومة من مصرف لبنان في ظروف استثنائية خطيرة، أو في حالات الضرورة القصوى، بل ربطت النقاش بإثبات تطبيق بعض مواد قانون النقد والتسليف ولا سيما المادة 69 وسواها (تنص هذه المادة على ضرورة إبقاء المصرف في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تتضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي 30% على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب)، أي أنها لم تحدّد المسار القانوني لتطبيق المادة 91 وما يرتبط بها، بل انحرفت نحو طلب إثبات تطبيق هذه المادة بدراسات تقنية، وهو أمر لافت جداً، إذ إن هيئة التشريع والاستشارات أصدرت رأياً في 5 نيسان 2022 موقّعاً من القاضي محمد فواز ورئيسة الهيئة جويل فواز، يربط تطبيق المادة 91 بمجموعة من المواد الدستورية والقانونية. فقد جاءت الاستشارة واضحة لجهة إلزامية العودة إلى مجلس النواب لتشريع عملية توقيع العقد التي قد تتم في ظروف استثنائية وفي غاية الخطورة رغم أنها قد تخالف بعض القواعد القانونية. وخلصت استشارة فواز إلى أن استقراض الحكومة من مصرف لبنان من الاحتياطات بالعملة الأجنبية يحتاج إلى إجازة تشريعية وضمانة من مجلس النواب لتغطية الخسارة المحتملة.
وفي الجلسة نفسها أيضاً، نوقشت مسألة تفادي «فيتو» نيابي على أن يكون المشروع وارداً من حكومة غير شرعية، فاقترح ميقاتي أن يقدّم أحد النواب اقتراح قانون يجيز اقتراض الحكومة من مصرف لبنان بالدولار.
إذاً، ما هي تداعيات الاقتراض بالليرة أو بالدولار؟ الأمر يختلف جذرياً بين الأمرين. فالاقتراض بالليرة يعني أن مصرف لبنان سيشتري الدولارات من السوق وبالتالي يخلق طلباً على الدولار ويضخّ في المقابل سيولة بالليرة. وهذا الأمر معاكس تماماً للنتائج المتأتّية من الاقتراض بالدولار من الاحتياطات، إذ سيتم استعمال الاحتياطات من أجل تمويل ضخّ الدولار في السوق ودعم رواتب القطاع العام، وبالتالي سيزداد الطلب على الليرة في السوق. النتائج معاكسة تماماً وإن كانت تؤدي بعض الغايات الأساسية مثل دعم رواتب القطاع العام. هذا الأمر يحتاج إلى دراسة دقيقة وقدرة عالية على التحكّم بالسوق والسيطرة على الكتل المالية بالليرة والدولار. وهذا الأمر يفترض أن يدرسه نواب الحاكم الأربعة، وأولهم منصوري الذي بدأ يتسلّم من سلامة مقاليد الحاكمية والمعلومات الأساسية تدريجياً.
سرّ تراجع الدولار
كان لافتاً أمس أن سعر الليرة مقابل الدولار سجّل انخفاضاً في ساعات المساء بنحو 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد. وتداول المصرفيون والمضاربون على الليرة أن هناك من يرى أن الطلب على الليرة والاحتفاظ بها سيكونان سمة المرحلة المقبلة في ظل جفاف السوق من الليرات، وهو ما أدّى إلى امتناع الصرافين عن بيع كميات كبيرة من الليرات مقابل الدولارات، أي أنهم يفضّلون الاحتفاظ بالليرات على شراء الدولارات. وثمة من قال بأن الصرافين لديهم «تعليمة» تقضي بالاحتفاظ بالليرات حتى يُؤذن لهم بغير ذلك.