الحُكومة اللبنانيّة المُتهمة بأنّها لم تُوقف مُوظّفًا فاسدًا واحدًا، وبأنّها لم تُعالج أيّ باب للهدر والسرقة، قرّرت فتح أبواب مصرف لبنان أمام التدقيق المالي والتحقيق الجنائي، بالتزامن مع صُدور قرار قضائي بالحجز الإحتياطي على أسهم عائدة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فهل ما يحصل هو عبارة عن وضع قطار مُكافحة الفساد على السكّة، أم مُجرّد إستعراض إعلامي وكيديّة سياسيّة؟.
بحسب رأي الجهّات المُعارضة للحُكومة وللعهد، إنّ كل ما يحصل لا علاقة له بالفساد وبالفاسدين، بل يهدف إلى النيل من جهات سياسيّة مُحدّدة ومن شخصيّات سياسيّة محسوبة عليها، وإلى إمتصاص النقمة الشعبيّة المُتعاظمة، باعتبار أنّ نسبة كبيرة من اللبنانيّين ناقمة على الحاكم وعلى المصارف، بسبب نجاح الحملات التي حمّلتهم مسؤوليّة ما حلّ بالودائع في البُنوك، وبرّأت الجهات التي تصرّفت بالأموال وهدرتها والتي لم تفِ بديونها للمصرف المركزي. وأصحاب هذا الرأي يستغربون لماذا يتمّ تجاهل التحقيق في وزارة الطاقة ومؤسّسة كهرباء لبنان، علمًا أنّ قطاع الكهرباء مسؤول عن الجزء الأكبر من ديون الدولة في لبنان مثلاً، ويتساءلون لماذا لا تطال التحقيقات وزارات أخرى، مثل الإتصالات، والأشغال، والصحّة، إلخ… أو مثلاً مجلس الجنوب، أو مجلس الإنماء والإعمار، إلخ… ولماذا لا يتم التحقيق في إرتكابات واضحة، مثل التوظيفات العشوائيّة وتلك غير القانونيّة التي حصلت مؤخّرًا!.
في المُقابل، وبحسب رأي الجهات الداعمة لإجراءات الحُكومة، إنّ ما يحصل هو بداية طريق إصلاحي شاق وطويل، ومن الطبيعي أن يلقى إعتراض منظومة الفساد. وتعتبر هذه الجهات أنّ المُكافحة يجب أن تبدأ من مكان ما في نهاية المطاف، لأنّه من المُستحيل فتح كل الملفّات في آن واحد. وتعتبر هذه الجهات أنّه سيكون التحقيق في مصرف لبنان، حجر الأساس لكشف كل الصفقات، وبوّابة العُبور للبدء بتوقيف الفاسدين، وبالتالي إنّ أيّ فشل على هذا المُستوى يعني طيّ صفحة المُحاسبة في لبنان لسنوات وعُقود طويلة، في حين أنّ المَطلوب التوصّل إلى نتائج مَدعومة بالأدلّة لإعادة الإحترام إلى لبنان على المُستوى الدولي بأنّ السُلطات اللبنانية جادّة في مكافحة الفساد وفي مُحاسبة الفاسدين.
وبعيدًا عن هذا الرأي أو ذاك، الأكيد أنّ عقبات قانونية عدّة ستعترض مسار التحقيق الجنائي الخاص بحسابات مصرف لبنان. وبموازاة رأي قانوني يقول إنّ الحكومة هي صاحبة السُلطة التنفيذيّة العليا، وكون مصرف لبنان جزء منها، يُمكنها بالتالي طلب التدقيق المالي في الحسابات، يُوجد رأي قانوني آخر يُشدّد على أنّ التحقيقالجنائي يحتاج إلى تعديلات كبيرة جدًا على مُستوى قوانين السرّية المصرفيّة، وقوانين النقد والتسليف المُعتمدة في لبنان بشكل عام، وكذلك القوانين الخاصة بسُلطات حاكم مصرف لبنان نفسه. وأصحاب هذا الرأي يعتبرون أيضًا أنّ شركة “ألفاريز أند مارسيل” (Alvarez and Marsal) غير مُتخصّصة بالتدقيق الجنائي أصلاً، ولا سُلطة تنفيذيّة لها، ما يعني أنّ الأمر سيعود مُجدّدًا إلى الملعب السياسي داخل لبنان، وتحديدًا إلى السُلطة التشريعيّة، وذلك لأنّه لا يُمكن الدخول إلى كثير من حسابات المصرف المركزي، من دون إذن من مجلس النوّاب اللبناني، وهو الأمر الذي لن يحصل، بسبب وُجود تكتّلات كبرى رافضة منها مثلاً حركة أمل وتيّار المُستقبل والحزب الإشتراكي، إلخ…
وإنقسام وحتى تضارب الآراء بشأن التحقيق في المصرف المذكور، يُوازيه إنقسام وتضارب آراء بشأن مُحاكمة حاكم المصرف رياض سلامة، حيث رحّب الكثيرون بالقرار القضائي الذي أصدره رئيس دائرة تنفيذ بيروت القاضي فيصل مكي والذي قضى بالحجز الإحتياطي على الأسهم العائدة للحاكم، على عدد من العقارات والمَنقولات المَملوكة له، وذلك على خلفيّة شكوى مُقدّمة من مجموعة من المُحامين وذلك تحت شعارات “إصلاح النظام”. في المُقابل، أحدث القرار القضائيردّات فعل رافضة، بإعتبار أنّ الإجراء المَذكور غير قانوني، ولا إثباتات إطلاقًا لكل الإتهامات المُرفقة به، وحجم التدبير القضائي غير مُناسب كونالمُحاكمة لم تحصل بعد.
وفي حين رأت أوساط إقتصاديّة مُعارضة أنّ الهدف هو رأس الحاكم سلامة فقط، مُتساءلة عن مصير قيمة الليرة اللبنانية في ظلّ ما يتعرّض له المصرف وحاكمه والمسؤولين فيه من حملات وحتى من مُحاكمات، رأت أوساط إقتصاديّة مُوالية أنّه من المُستبعد أن يحصل بالليرة أكثر ممّا حصل، مُعتبرة أنّ من شأن تعيين مجموعة جديدة بالكامل لقيادة ماليّة الدولة، أن يُعيد الثقة، خاصة إذا ما إقترنت هذه الخُطوة مع توقيف الفاسدين. أكثر من ذلك، يؤكّد المُدافعون عن سلامة أنّ هذا الأخير كان بكلّ بساطة يُنفّذ تعليمات السُلطات التنفيذيّة المُتعاقبة، لجهة منح الدولة القروض، وسدّ العجز في ميزانيّاتها، وهو سيناريو لا يزال قائمًا حتى تاريخه مع الحُكومة الجديدة، مع العلم أنّ من لامه على هدر المليارات لتثبيت سعر صرف الدولار، يُطالبه حاليًا بالتدخّل في السوق بما تبقّى من أموال، لمنع إرتفاع العملة الخضراء، الأمر الذي سيُعزّز قُدرة سلامة الذي يعرف الكثير من الخبايا، على الدفاع عن نفسه بمُواجهة أيّ إتهامات ستطاله.
في الخُلاصة، الأمور بخواتيمها، وقد يكون ما يحصل مُحاولة لدفع حاكم مصرف لبنان إلى الإستقالة طوعًا، على أن يتمّ إستبداله بآخر جديد بحكم الأمر الواقع، في تكرار لسيناريو شبيه بما حصل مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. فهل ستنجح هذه المُحاولة؟.