نحو تصحيح عادل وهادف للأجور

الأسبوع الماضي ارتفع سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة، فانخفض الحدّ الأدنى للأجور من 450 دولاراً إلى 45 دولاراً شهرياً (675 ألف ليرة). من يتقاضى هذا الحدّ الأدنى، عليه أن يعيش بنحو 1.5 دولار في اليوم. إشكالية كهذه، لا يمكن مواجهتها إلا بسياسة واضحة: تصحيح الأجور. لكن إذا لم تكن الظروف الاقتصادية والمالية والنقدية تسمح بذلك، فهل هناك وسائل أخرى: نعم إنه الأجر الاجتماعي الذي يزيح أعباء عن الأجور الحالية مثل الطبابة المجانية والتعليم المجاني وسواهما، ما يعوّض بعضاً من التدهور في قيمة الأجر

انخفاض القيمة الحقيقية للأجور أمر لا مهربَ منه في حالة وقوع أزمات العملات. هذه خلاصة ما تكشفه الورقة البحثية التي أعدّها إميليانو برانكاشيو وناديا غاربيليني بعنوان «أزمات نظام العملة، والأجور الحقيقية، وتوزيع الدخل الوظيفي والإنتاج». درست هذه الورقة 28 حالة تحوّل من سعر صرف ثابت إلى أسعار صرف حرّة ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة، وخلصت إلى أن تحرير سعر الصرف ينعكس انخفاضاً في القيمة الحقيقية للأجور. هذا ما حدث بالضبط في لبنان. فالانخفاض الحاد الذي طرأ على قيمة الليرة خلال سنة وبضعة أشهر أدى إلى تضخّم في الأسعار بنسبة 84% في عام 2020، وأضعف القدرة الشرائية للأجراء بشكل ملحوظ.

المشكلة الأساسية في تحسين الأجور في ظل الأزمات، متعلقة بمصدر التمويل. أمر كهذا لا يمكن أن يحدث من خلال خطوة بسيطة مثل رفع الحدّ الأدنى للأجور، نظراً إلى ما يمكن أن يخلقه هذا الأمر من مسار تضخّمي في دوامة لا نهاية لها. هنا يمكن الحديث عن «الصعيد الذاتي»، أو «الحل الذاتي» الذي يتفوّق فيه أصحاب الأعمال بعلاقتهم مع الأجراء. هؤلاء، في عينَي جون ماينارد كينز، «هم الرابح الأكبر من الانخفاض في قيمة العملة». فهو يشير إلى تأثير انخفاض قيمة العملة على المجتمع عبر تشريحه إلى ثلاث شرائح: مستثمرون، أصحاب أعمال وأجراء. يرى كينز أن المستفيد الأكبر بين هؤلاء، هم أصحاب الأعمال لأنهم لا يعتمدون في تمويل مصالحهم على رؤوس أموالهم فقط (خصوصاً الكبار منهم) بل يعتمدون بشكل كبير على الاستدانة. وفي ظل أزمات العملة، فإن عقود الدين هي المتأثّر الأول لأنها تنصّ على دفعات سنوية أو شهريّة ثابتة، ولا تأخذ في الاعتبار التغيّر في قيمة هذه الدفعات. بهذه الطريقة تنخفض كلفة الدين الحقيقية على هؤلاء (تماماً كما يحصل في لبنان حالياً في ظل قيام المقترضين بسداد الديون بالشيكات المصرفية التي تدنّت قيمتها بنحو 75%). وتمتدّ هذه الاستفادة طوال مدّة آجال العقود القديمة.

ويستفيد أصحاب الأعمال أيضاً من انخفاض الكلفة الحقيقية لرأس المال البشري، أي الأجور. من هنا يمكن الضغط على أصحاب الأعمال لتحسين الأجور بدلاً من استغلال انخفاض قيمتها الحقيقية لمراكمة الأرباح.

رفع الأجور المحدود بالطريقة المذكورة ليس كافياً. فالانخفاض الحاصل في قيمة العملة لا يمكن تغطيته بخطوة واحدة في ظل خسائر كبيرة طرأت على قيمة الأجور الحقيقية. الأمر يتعلق بقدرة المؤسسات على الاستمرار في ظل هذه الأزمة.

إعادة توزيع الثروة هي من الطرق التي يمكن أن تموّل مثل هذه الخطوات. يتطلب الأمر أن تتم العملية عبر السياسات الضريبية. لذا، تصبح مسألة تمويل الخدمات العامة المجانية بالمال العام، مسألة مرتبطة مباشرة بإعادة توزيع الثروة. عندما تُفرض الضريبة، تُقتطع من الأكثر قدرة، من أجل إنفاقها على تحسين المجتمع وزيادة فاعليته. هذا هو المفهوم الأساسي لإعادة توزيع الثروة، وهو ينطبق على مسألة الأجر الاجتماعي. الأمر لا يتعلق بالتفسيرات الشعبوية عن الأخذ من الغني وإعطاء الفقير، بل هي متصلة أكثر ببنية المجتمع وكيفية تحصيل الضريبة والإنفاق منها ضمن أهداف محدّدة وواضحة.

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقةفتح الحدود الجوية القبرصية أمام اللبنانيين
المقالة القادمةوزني يوقّع مرسوم نقل اعتماد لشراء مليون ونصف المليون جرعة من لقاح “استرازينكا”