قدم الوزيران السابقان منصور بطيش وجان لوي قرداحي ورقة اصلاحية شاملة تحت عنوان «نحو الحداثة والمواطنة» في ندوة «المأزق الإقتصادي والمالي: المخارج الممكنة»، ضمن فعاليات المهرجان اللبناني للكتاب (الحركة الثقافية – أنطلياس) السبت الماضي.
وسبق للوزيرين أن أودعا تلك الورقة لدى البطريركية المارونية ومراجع عليا أخرى. وفي ما يلي النص الكامل:
يعاني لبنان منذ عقود من أزماتٍ متراكمة ومتناسلة، نتيجة نظامٍ سياسيٍّ لمْ يتطور باتجاه الحداثة إلّا بالنزر اليسير، بسبب ممارسات معظم منْ حكموا من خلاله. فعلى مدى قرابة نصف قرن، حمل هذا النظام بذاته بذور انفجاره من الداخل وتفجيره من الخارج سياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً ومالياً. وما الانهيارات التي تولدتْ منذ 17 تشرين الأول 2019 والتي لمْ يسبقْ لها مثيلٌ في التاريخ منذ العام 1857 وفق تقارير البنك الدولي، سوى تأكيدٍ على ذهنية الإنكار وانعدام المحاسبة والتمنع عن إجراء الإصلاحات، وصولاً إلى «إفقارٍ متعمدٍ للشعب اللبناني» اعتبرته لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة «اعتداءً صارخاً على حقوق الإنسان». فأجهضتْ محاولات النهوض بالبلد ووضعه على طريق التعافي وخارطة النمو المستدام.
تمادٍ فظيع في العجز
يعزى هذا التمادي الفظيع في العجز إلى مجموعة أسبابٍ أبرزها فساد وعدم كفاءة قوى ممسكة منذ سنوات بمواقع القرار التشريعي والتنفيذي والقضائي، وتلاقي مصالحها مع مجموعاتٍ أوليغارشية تمكنتْ على مدى أكثر من نصف قرن، من إسقاط معظم المحاولات الجدية للإصلاح. وهذه الأوليغارشيات المتجذرة في الدولة العميقة منذ عقود، والمتحكمة بالمفاصل الأساسية للدولة، كانتْ ولا تزال لاجمةً للعمل وللاستثمار في الإنتاج، كما للإبداع والابتكار، وهي عابرةٌ للطوائف والأحزاب، تعلي مصالحها على كل اعتبارٍ وطنيٍّ أو أخلاقي.
إنهيار سلّم القيم
إن التخبط الذي يشهدْه لبنان على صعدٍ مختلفة، ناتجٌ أيضاً عن انهيار سلم القيم في خلال الحرب وما تلاها، واستمرار الذهنيات الميليشيوية فكراً وممارسةً، وإنْ بأوجهٍ جديدة مالية الطابع، وجنوح أفرقاء عدة نحو مزيٍدٍ من التسلّط ووضع اليد على مقدرات البلد، وتعميم ثقافة الريع والمركنتيلية، على حساب ثقافة الإنتاج، سلعاً وخدماتٍ وتكنولوجيا.
وإذا كانتْ الأرقام وحدها لا تعكس فكراً ونهجاً سياسيّاً واقتصادياً – اجتماعياً، فهي تبقى المدخل العلمي الإلزامي لتشخيص الواقع المالي والاقتصادي، ومنها يمكن وضع الإصبع على الحقائق الجارحة.
الحقائق المالية الجارحة
يبلغ الدين العام الحكومي، المسجل في وزارة المالية، قرابة 100 ألف مليار ليرة لبنانية، ونحو41 مليار دولار هي مجموع القيمة الإسمية (31.3 مليار دولار) لسندات اليوروبوندز، والفوائد المستحقة عليها بما فيها فوائد التأخير، وقروض طويلة الأجل بنحو ملياري دولار لصالح مؤسسات دولية.
أما فجوة مصرف لبنان، وهي خسائره بالعملات الأجنبية التي راكمها عبر السنين وأخفاها عمداً في حساباتٍ سماها زوراً «موجودات أخرى»، ثم عاد وتلاعب في ميزانيته بتاريخ 15 شباط 2023، فإنها تبلغ راهناً نحو 77 مليار دولار وهي منْ أموال الناس المودعة لدى المصارف، استعملها من دون وجه حقّ ولغير الدين الحكومي.
تضاف إلى هذه الخسائر المتراكمة عبر السنين والتي هي بمثابة مذبحة مالية يحاول البعض التخفيف من هولها، ما خسره اللبنانيّون من ثروة عقارية هائلة باعوها في خلال ثلاثة عقود من الريع، وما خسره القطاع الخاص في مؤسساته من عشرات مليارات الدولارات، بعد 17 تشرين الأول 2019 وعقب كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وما تلاها منْ خساراتٍ في الثروة البشرية نتيجة هجرة عشرات الآلاف من خيرة شبابنا بحثاً عن أملٍ بات مفقوداً في لبنان وعن فرص عملٍ في الخارج.
تعطلت المساءلة والمحاسبة
أمام هذا التهاوي المأسوي والمريع، كان صمت معظم القضاء مريباً، فاعتكف منكفئاً عن تحمل مسؤولياته في المساءلة والمحاسبة. كما وقفتْ القوى السياسية متمنعةً حتى عن تطوير ذاتها لمواجهة الأزمة بمسؤولية. فعوض تكريس التفاهمات السياسيّة بإنجاز الإصلاحات وتعميق المصالحة، ترسختْ عقلية التصارع والتناحر الميليشيوية والاستعلاء على الناس، وحلتْ الكيدية والاستقطابات والمناكفات بين السياسيّين، ففشلوا في استنباط الحلول الناجعة. إذ ذاك، سقط مشروع إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وانتهى بالانهيار الكبير الذي تظهر بدون التباس ابتداءً من تشرين الأول 2019.
مواجهة التحلل المتفشي
لذلك، واستناداً إلى ما خبرناه في العمل الوطني، كلٌّ في مجاله وفي مراحل مختلفة، والتزاماً منا بضرورة مواجهة التحلل المتفشي في مرتكزات المجتمع ومؤسسات الدولة، ولأن السكوت عن الجريمة المتمادية بحق شعبنا هو جريمةٌ أكبر، تداعينا، فتناقشنا في الأزمة وفي استشراف الحلول انطلاقاً منْ أي نظامٍ يحتاجه لبنان وأي دولةٍ يصبو إليها شعبنا، وأي عقدٍ اجتماعي يجعلنا نحيا معاً بحرية وكرامة واطمئنان، مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات. فجاء طرحنا مشروعاً نهضوياً متكاملاً، في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، كي لا يبقى وطن الحرف متسكعاً على رصيف الرثاثة والتخلف.
بلى، يمكن الخروج من هذا النفق المظلم بالسير في الاتجاه الصحيح ووضع حدٍّ للانقسام حول الحلول، في استعادة السيادة واستنهاض الاقتصاد. فلا اقتصاد متيناً ولا نمو مستداماً في ظل سيادةٍ منقوصة ودولةٍ متكسرة الأجنحة عاجزةٍ عن تقرير مصيرها. ولا سيادة مع تبعيةٍ اقتصادية وانهيارٍ مالي جعل الناس رهائن الفقر ولقمة العيش، وضحايا ابتزاز السياسيين. وقد أمسى جلياً أن اقتصاد الريع كان يعوم نفسه بالقروض مستجلباً التبعية على حساب السيادة.
إعادة تكوين السلطة على أسس الديمقراطية والعدالة والشفافية
ذلك لحماية المجتمع والمواطن الفرد من الاستئثار والطغيان. فاللبنانيّون بحاجة لخطة متكاملة للتعافي السياسي والاقتصادي والمالي وحتّى في العلاقات المجتمعية، منطلقها عقدٌ اجتماعيٌّ جديد ركيزته دولةٌ مدنية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات أمام القانون من دون أي تمييز، وتستعيد فيها القيم مكانتها لدى العاملين في الحياة العامة، إذ لا يكتمل الإصلاح منْ دون سلم قيم. فكما أن أزماتنا متداخلةٌ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق، كذلك يجب أنْ ترقى الحلول إلى المستويات نفسها.
وعليه، فإننا نرى أن المداميك الأساسية لمشروع الحلول هي:
1 – إعادة الاعتبار للتجربة اللبنانية الفريدة
ذلك بتجديد العقد الاجتماعي الضامن للتنوع الثقافي والديني بين اللبنانيين على أسسٍ تحاكي الحداثة وتزيل خوف الكثيرين، فيتطلع الجميع، أفراداً وجماعاتٍ، إلى مستقبلهم بأملٍ وثقة، ويتشاركون في صياغة دورٍ رياديٍّ للبنان في العقود المقبلة، مستفيدين ممّا يملكه الوطن من خصوصيات وميزاتٍ تفاضلية وقيمٍ حضارية.
2 – التأكيد على إلزامية احترام شرعة حقوق الإنسان وتطبيقها
التطبيق في التعاطي بين الناس، مع التشديد على احترام الحريات الشخصية والعامة وإقرار قوانين عقابية صارمة لكل سلوكٍ أو موقفٍ يعكس عصبية غريزية دينية، طائفية، مذهبية، سياسية أو مناطقية.
3 – قوننة نبذ العنف نهائياً بين اللبنانيين
نبذ العنف بكل أشكاله العسكرية والفكرية والكلامية، وتكريس ثقافة قبول الآخر في المناهج التربوية وقوانين الجمعيات والأحزاب، ليصبح لبنان فعلاً واحة سلامٍ وتآخٍ وملتقى حوارٍ بين الشعوب والأديان والحضارات. فحسن النوايا وحده لا يكفي.
4 – وضع حدٍّ لذهنية التعطيل
نقصد التعطيل الظاهر والمقنع، مهما كانتْ التبريرات ( تعطيل الحوار البناء بين اللبنانيين، تعطيل مؤسسات الدولة، تعطيل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية والقضائية والإدارية…)، واستبدالها بثقافة التطوير الدائم في الميادين الوطنية كافة.
5 – تثبيت نهْج المحاسبة ومكافحة الفساد
نبدأ بإزالة رواسب ذهنية الريع، والتشدد في كشف التعديات على المال العام، وأولها في حسابات مصرف لبنان، وصولاً إلى حسابات الوزارات والمؤسسات العامة بدءاً بكهرباء لبنان ووزارات الاتصالات والمالية والأشغال العامة ومرفأ بيروت…
6 – العمل على قيام دولة المواطنة
دولة تكون بديلاً من أوهام الطوائف ومصالح الخارج، بالاستناد إلى الأسس الخمسة الآتية:
– دولةٌ مدنية بجميع مندرجاتها، تقوم على المساواة بين مواطنيها، بعيداً عن الهيمنات السياسية والأمنية والاقتصادية والطائفية، وتعطي للشباب أملاً بمستقبلٍ آمن ومزدهر في وطنهم، يلبّي متطلبات العصرنة، فيساهمون بفعاليّة في نموٍّ اقتصاديٍّ مستدام.
– دولةٌ علمانية، لحل مشكلة الأحوال الشخصية وتعدد المعايير (سنّ الزواج، عقد الزواج، الحضانة، الإرث…).
– دولةٌ ديمقراطية، غير استبدادية. فلا للأحادية الحزبية، ولا لثنائياتٍ مذهبية أو ثلاثياتٍ طائفية أو تحالفاتٍ رباعية، بلْ تكريسٌ لتعددية الأحزاب العابرة للطوائف، ولحرية العمل السياسي في كافة المناطق اللبنانية.
– دولةٌ إنسانية – اجتماعية، مع تحديد واجبات الدولة تجاه مواطنيها لا سيما لناحية الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية (حقّ التعليم، حقّ الاستشفاء، الحقّ بنظام تقاعدي عادل)؛ وبالتالي، تحديد ما هي واجبات المواطنين تجاه الدولة.
– دولةٌ لا مركزية إدارية ومالية موسعة، استناداً إلى وثيقة الوفاق الوطني الصادرة في اجتماع الطائف بتاريخ 22 تشرين الأوّل 1989 والتي صدق عليها مجلس النواب بتاريخ 5 تشرين الثاني 1989. ومنْ نافلة القول إن لاعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة تأثيراتٍ إيجابيةً على تكبير حجم الاقتصاد وعلى التنمية المتوازنة مناطقياً وقطاعياً. ومنْ يعترض على اللامركزية اليوم أو يعرقل إنجازها هو إمّا جاهلٌ أو يضمر أهدافاً ونوايا مشبوهة؛ فتهرب البعض من البحث الجدي في مشروع اللامركزية لا يقل خطورةً عن حديث بعضٍ آخر عن التقسيم والفدرلة.
7 – إقرار خطةٍ للتعافي المالي والنقدي
خطة تنطلق من توزيعٍ عادلٍ ومنصفٍ للخسائر، على أساس حجم مسؤولية كل جهة وعلى أنْ يتحمل أكثر منْ استفاد أكثر في المرحلة السابقة، بما يتوافق مع توجهات صندوق النقد الدولي (الدولة عبر رصيد الدين العام، المصارف، مصرف لبنان المسؤول الأول عن خطايا سياساته النقدية، حاملو سندات اليوروبوندز، كبار المودعين بالعملات الأجنبية بإعادة احتساب معدلات الفوائد المرتفعة التي حصلوا عليها)، مع الحرص على حماية حقوق صغار المودعين.
بالتزامن مع ذلك، من المفيد درس سبل الاستفادة منْ إيرادات بعضٍ منْ موجودات الدولة بغرض تحسين المداخيل العامة لتعزيز الإنفاق الاجتماعي والاستثماري. كذلك، يفترض تحديد الأموال غير المشروعة المودعة في النظام المصرفي اللبناني، ومعالجة وضعها في إطار القانون.
8 – إعادة هيكلة القطاع المالي
إعادة هيكلة مصرف لبنان والهيئات التابعة له، المصارف التجارية ومصارف الأعمال، شركات التأمين وإعادة التأمين، وإعادة تحديد دور القطاع ليصبح رافعةً للاقتصاد المنتج ومحركاً له، عوض أنْ يبقى أجيراً في خدمة الريع. هذا يستدعي إعادة رسملة المصارف وشركات التأمين، وتنقية القطاع من الشوائب التي اعترته، وتطوير مأسسته ليواكب الحداثة ومستلزمات بازل والحوكمة الرشيدة. واستطراداً، تغيير السلوكيات في مصرف لبنان ونظم العمل، على الأسس التالية:
– إتباع سياسة نقدية هادفة ومرنة، تحافظ على الاستقرار النقدي مع مراعاة متطلبات السوق.
– تعديل قانون النقد والتسليف لتطويره بما يتماشى مع ضرورات الشفافية، ولسد الثغرات التي استغلها من مارسوا الأخطاء والخطايا.
– فصل الإدارة التنفيذية عن المساهمين في المصارف وشركات التأمين، فتتعزز الشفافية ويترسخ دور المساهمين في تعيين الإدارة التنفيذية ومراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها.
فضلاً عن ذلك، بات حتمياً فتح الباب واسعاً أمام الأسواق المالية لتوسيع قاعدة المساهمين في كبريات الشركات الخاصة ولتمويل مشاريع كبرى للدولة عن طريق الـ BOT.
9 – إقرار موازنة إصلاحية
موازنة للعام 2023 تعكس خيارات اقتصادية واضحة ولا تكون لها آثارٌ انكماشية على الاقتصاد، بلْ تؤشر بوضوح إلى تحفيز الاستثمار في قطاعات الإنتاج لا سيما السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، وفي مجالاتٍ تساهم في التنمية المستدامة كالنقل والبنى التحتية والصحة والتعليم.
10 – تصفير العجز المالي البنيوي
هذا التصفيرللعجز البنيوي أصبح متاحاً في غضون سنتين أو ثلاث. أمّا العجز المالي غير البنيوي، الناتج عنْ نفقاتٍ استثمارية تحفز النموّ الاقتصادي المستدام، فيبقى ضرورياً مرحلياً لإعادة تأهيل البنى التحتية، فتطال إيجابياته البعد الاجتماعي والنشاط الاقتصادي المفترض أن يزداد حجمه.
11 – قيام وزارة المالية بإعداد لائحة بموجودات الدولة
يشمل ذلك عقارات ومباني وأصولاً أخرى، لتحسين استثمارها عن طريق التشركة بإنشاء شركاتٍ تملكها الدولة، تكون جاذبةً لشركاء استراتيجيين بحسب القطاعات بعد تحريرها وتنظيمها، مع إمكانية القيام لاحقاً وفي التوقيت المناسب، ببيع بعضٍ ممّا هو غير استراتيجيٍّ منْ هذه الأصول.
12 – إجراء تغييرٍ جذريٍّ في هيكل الاقتصاد اللبناني وبنيته
نقل الاقتصاد منْ ريعيٍّ مهجرٍ للطاقات إلى منتج، حيويّ ومؤنسن، باعتماد سياسة تحفيز الإنتاج بإجراءاتٍ توسع قاعدة المستثمرين عنْ طريق الأسواق المالية؛ فيكْبر حجم الاقتصاد وتتحسن قدراته التنافسية. إن الهدف هو خفض العجز التجاري بزيادة الصادرات تدريجياً بمعدلٍ لا يقلّ عن مليار دولار سنويّاً، والتركيز على تطوير القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية كالأدوية، الأغذية والمأكولات، الملبوسات، المفروشات، والقطاع الزراعي بما فيه الصناعات الزراعيّة، والعمل على تحديث قطاع السياحة والخدمات وإنشاء منطقةٍ للاقتصاد الرقمي.
بذلك، تتضاعف فرص العمل والرفاه والتقدم للبنانيٍّين في وطنهم، فنصدر السلع والخدمات بدل تصدير شبابنا، وتنخفض فاتورة الاستيراد، ويتحوّل اقتصادنا من اقتصادٍ استلحاقيٍّ إلى اقتصادٍ سياديٍّ يحدد هو أسواقه.
13 – إقرار نظامٍ ضرائبيٍّ عادل
نظام يرتكز على الضريبة التصاعديّة وعلى الدخل والصحن الضريبي الموحد للأسرة، بما يحمي ذوي الدخل المحدود ويوفر للدولة إيرادات تسمح بتقديم خدمات ورعاية لمواطنيها. فالنموذج الريعي الراهن الذي يتغاضى معظم السياسيين عن البحث فيه، هو تجسيدٌ للاعدالة تجاه المواطنين إذ يقتات من ضرائب الاستهلاك ومن رسومٍ متشعبة، عوض التركيز على الأرباح المحققة، خلافاً لما هو معمولٌ به في الدول المتطورة كالاتحاد الأوروبي.
14 – إقرار خطةٍ شاملة للنقل
تطوير شبكة الطرق، شبكة قطارات وخطّة للنقل العام، التي يجب البدء بتنفيذها فوراً، ووضع مخططٍ استراتيجيٍّ لها.
15 – التشدد بمكافحة التهريب والتهرب الضريبي
تهرب وتهريب يجسدان الّلاعدالة بين منْ يحترمون القانون وبين منْ يضربون به عرض الحائط. فالتوازن بين واجبات المواطنين وحقوقهم، هو من البديهيات، والعلاقات بين الجماعات كما بين الأفراد، لا تستديم إلّا مظللةً بالمصالح المشتركة في إطار الاحترام المتبادل.
16 – إعادة هيكلة القطاع العام
يشمل ذلك وزاراتٍ وإداراتٍ ومؤسساتٍ عامة، وترشيقه وتحديثه، والانتقال سريعاً إلى الحكومة الالكترونية. فالقطاع العام يجب أن يكون قاطرةً لنهوض الاقتصاد ودافعاً لنمو القطاع الخاص، لا عبئاً عليهما.
17 – اتخاذ التدابير الآيلة إلى توطيد ثقافة الاقتصاد الأخضر
الهدف ضمان الاستخدام الأمثل للموارد العامة. وفي هذا السياق، فرض نسبٍ ضريبية مرتفعة على استغلال الثروات والموارد العامة والأملاك العمومية، وعلى النشاطات التي تضر بالبيئة والصحة العامة، وتغريم كل أشكال التعديات على الأملاك العامة، البرية والنهرية والبحرية، والموارد الطبيعية والتاريخية، وهي أمانتنا للأجيال المقبلة. إننا نخسر الكثير من ميزات لبنان بسلوكياتٍ تعادي الطبيعة والبيئة.
18 – تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية
لتصبح تلك الانظمة اكثر عدالةً وتوازناً بين العاملين في القطاع العام، ولتشمل تغطيتها كل فئات المجتمع اللبناني. في طليعة هذه الانظمة، إقرار قانون ضمان الشيخوخة، وتوزيع البطاقة التمويلية على مستحقيها في أسرع وقت. فمع تحفظنا على فكرة البطاقة التمويلية بالمطلق، إلّا أنها تشكل في الظروف الراهنة، ممرّاً إلزامياً موقتاً لصمود الفئات الأكثر هشاشةً، بانتظار الحلول الجذرية.
19 – تأمين شبكة حماية للنظام الإستشفائي
يشهد النظام الاستشفائي منذ عدة أشهر تراجعاً خطيراً في عدد الأطباء والممرضات والممرضين بعد هجرتهم الكثيفة. فليس مسموحاً، بعدما كنا مستشفى الشرق الأوسط ومصدر اطمئنانه، أنْ نعيش قلقاً على إمكانيّة الاستشفاء والطبابة.
20 – دعم قطاع التربية والتعليم
دعم ضمن خطة التعافي الاقتصادي والمالي. فما يصح على واقع المستشفيات يصح أيضاً على قطاع التعليم. وقد صار ملحاً اعتماد مقاربات جديدة للاهتمام بالقطاع التربوي. فمن الحلول المرحلية الممكنة، اعتماد نظام فوترةٍ يخصص بموجبه مبلغ مقطوع لكل تلميذ في المدارس والجامعات الخاصة، يحدد لكل صفّ بغض النظر عن فرق الكلفة بين مدرسةٍ وأخرى أو جامعة وأخرى. وكانطلاقة أولية، يمكن أن تراوح كلفة نظام الفوترة المقترح 33% من إجمالي الفاتورة التربوية التي تتحمل أعباءها الخزينة اللبنانية حالياً.
ويبقى من بداهة القول التشديد على أهمية تطوير المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية ومعاهد التعليم المهني والتقني، وتحديث مناهجها وتوزيع فروعها في مختلف المناطق.
21 – إقرار خطةٍ وطنية دفاعية لحماية لبنان، أرضاً وشعباً وثروات
ومن مقومات هذه الخطة، الحفاظ على جميع عناصر قوة لبنان بما فيها سلاح المقاومة وإدخاله في الإطار الدفاعي حصراً ضمن استراتيجية تكون الإمرة فيها للمجلس الأعلى للدفاع. بالتالي، إبعاد السلاح نهائياً عن الحياة السياسية وإسقاط كل ذريعةٍ باتهامه بحماية الفساد وعرقلة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها.
22 – حل مشكلة النزوح السوري
مشكلة النزوح فاقمت من الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون منذ التسعينات، والتي تناسلتْ عبر السنين وانفجرت في تشرين الأول من العام 2019.
23 – إقرار التشريعات اللازمة لاستقلالية القضاء
استقلالبة القضاء لا سيما عن السلطة السياسية وأي سلطة أخرى، ولتحصينه من الاغراءات، خصوصاً من قبل أصحاب النفوذ والمال. فالقضاء المنزه، الفعال والمستقلّ، المواكب لحاجات المتقاضين بسرعة وشفافيّة، والحريص على إعلاء شأن القانون فوق كل المحسوبيّات، هو ضمانة أساسيّة لاستعادة الثقة وجذب الاستثمار.
24 – إصدار المراسيم التطبيقية لقانون المنافسة
أقر القانون في شباط 2022 بعد جهدٍ جهيد ليساهم بفكفكة الاحتكارات التي لمْ يعدْ لها مثيل في عالم الاقتصاد الحرّ. فالنموذج الاحتكاريّ القائم في لبنان هو قاتلٌ ومدمرٌ للاقتصاد الحرّ، وهو عابرٌ للطوائف والمذاهب والأحزاب.
25 – اعتماد مبدأ الحوار والانفتاح معياراً أساسياً
نعتمد الحوار في أدبياتنا الوطنية وسلوكيّاتنا اليومية، والتفاعل الإيجابي والبناء مع محيطنا المشرقي والعربي ومع الفضاء الأورومتوسطي، فيتعزّز دور لبنان وحضوره الثقافي والحضاري والاقتصادي. لبنان الرسالة هو مساحة فكرٍ وحوار.
ختاماً… نحو دولة مدنية علمانية
هي أفكارٌ ومبادئ قابلةٌ للبحث والتطوير، ومنْ يلْتزم بها عليه أنْ يحياها ويعمل لها في الإطار الوطنيّ الجامع. لبنان بحاجة إلى خطة استنهاضٍ شاملة متكاملة، تتضمن استرجاع الاعتبار للقيم في سلوكياتنا الوطنية وإنقاذ الفكرة اللبنانية واستدامة رساليتها. فنعيد الألق لصورة لبنان الوطن، جسر حوارٍ وتلاقٍ لا دولة تناحرٍ وساحة صراع محاور.
أزمتنا هي أولاً في تهاوي القيم، مما أفشل النموذج السياسي الاقتصادي الاجتماعي. لكننا، بالأخلاق والعقل والعلْم، قادرون على قلْب مسار الأحداث متى توفرت الإرادة واستلْهمنا عنفوان شعبنا وتاريخه المقاوم.
السياسة أخلاقٌ ورؤية؛ فلبنان منذ الاستقلال وفي مراحل عدة، عانى من التشاطر والتناكف والتعطيل، ولا يجوز مطلقاً أن تتحول السياسة تآمراً من جماعةٍ لبنانية على أخرى.
إن العمل السياسي هو مسؤولية وطنية يفترض أنْ ترتقي في العطاء والترفع عن الصغائر لصالح الناس، خصوصاً في زمن الانهيار. أما الأمل بالخلاص، فمنطلقه العقل والوعي، والالتزام بالإصلاح وبإرساء المساءلة والمحاسبة.
اليوم، أكثر منْ أي يومٍ مضى، نحتاج إلى المبادرة بجرأة والإقدام بلا تردد. لنتحرر من ألأنا لأجل النحن، ونتجرأ على الالتقاء حول مشروعٍ وطنيٍّ إصلاحيٍّ بعيداً عن مصالح الطوائف والمذاهب، فنحقق تطلعات شعبنا وآماله، كي لا يبقى الإصلاح أفكاراً مشتتة يحملها أفرادٌ يمرون كشهبٍ سرعان ما تنطفئ، ويتحول لبنان إلى دولة فاشلة.
إلى المقتنعين بهذا التوجه، لنلتق حول بناء دولة المواطنة والحقّ. دولةٌ مدنية علمانية ديمقراطية، أركانها قانونٌ وعدالةٌ اجتماعية وتوازنٌ اقتصاديٌّ وسيادةٌ غير منقوصة. دولةٌ تفتح لأبنائها أبواب الإنتاج والإنجاز والتجذّر وتسد نوافذ الإحباط واليأس والهجرة.