يثير ارتباك المسؤولين اللبنانيين في تسيير الاقتصاد المترنح القلق من تفجر أزمة أقسى للقطاع الخاص الذي يعاني أصلا من تراكم المشاكل بسبب زيادة الضرائب، وسط تحذيرات من أن انهياره ستكون له تداعيات كارثية على سوق العمل أكثر مما هي عليه الآن.
يوحي ما رشح عن موازنة 2024 التي أقرها البرلمان مع تعديلات، بإلقاء عبء إضافي على القطاع الخاص تحديدا رغم أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أكد في منتدى دافوس أن نشاطه مصدر النمو لاقتصاد البلاد.
وأكد زير الاقتصاد أمين سلام أن انعكاس الموازنة على الاقتصاد والقطاع الخاص “غير إيجابي على المديين القصير والطويل، وفيها انعدام للرؤية الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة لتحقيق النمو”.
وقال في تصريحات لبلومبرغ الشرق الثلاثاء إن “التوقيت غير مناسب لفرض ضرائب ورسوم”، نظراً إلى أن البلد “في حالة انكماش اقتصادي ويعاني من تدهور قيمة العملة الوطنية”، ولأن فرض هكذا رسوم “يعقّد ويشل الحركة الاقتصادية”.
وأضاف أن الموازنة “بُنيت على قاعدتين أساسيتين: الدولة في حاجة إلى زيادة التمويل وبسرعة، وضرورة اللحاق بسعر الصرف (في السوق الموازية) المرتفع”، محذرا من أن هذه المعايير “غير صحيحة أو سليمة” للقطاع الخاص.
وتابع “لا يمكنني كوزير الموافقة على هكذا موازنة أو القول إنها جيدة أو تفيد القطاع الخاص، لأنها ضد مبادئي. هذه موازنة اتفق الجميع، مجلس النواب والوزراء، على أنها أقل الشرور”.
وبشأن نسب النمو المتوقعة والتي قدرها ميقاتي العام الماضي بنحو 1.5 إلى 2 في المئة ويمكن أن ترتفع هذا العام بسبب القطاع الخاص، قال سلام إن لبنان توقع نسبة نمو بين 2 و3 في المئة نتيجة الموسمين السياحيين الصيفي والشتوي.
ولكنه أوضح أن استمرار حالة عدم الاستقرار في جنوب البلاد، في إشارة إلى التوترات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، “سيضر بنحو 1.5 إلى 2 في المئة من النمو الذي كان متوقعاً”، لا بل قد يؤدي إلى “انكماش إذا بقي الوضع على حاله”.
وتظهر الموازنة بشكل واضح تعويل الحكومة على الضرائب، إذ يفترض أن تبلغ إيراداتها في 2024 نحو 229.7 تريليون ليرة (2.56 مليار دولار)، أي 77 في المئة من مجمل الإيرادات، مقارنة بنحو 19.5 تريليون ليرة في موازنة 2022.
وهذه الزيادة الضريبية على الشركات ليست الوحيدة التي أثارت تذمر الأوساط الاقتصادية، فثمة جباية إضافية دفعت بعض القطاعات إلى التلويح بالإضراب، في وقت توقفت فيه الشركات المستوردة للوقود عن تسليم المحطات لبعض الأيام احتجاجا عليها.
ويرى الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أن تصفير العجز تم “على الورق”، ولكنه لن يكون كذلك في نهاية السنة نظرا إلى التضخم الكبير في النفقات، في حين أن الإيرادات “جرى تضخيمها أيضاً على الورق، ومن الصعب أن تتحقق”.
وقال إن الموازنة “موازنة تصريف أعمال” وتفتقر إلى إصلاحات هيكلية، و”لا تزال الحكومة تعتمد على النهج نفسه” المتمثل في “احتكار” القطاعات الأساسية مثل الكهرباء، والتي بدورها تعاني من مشكلات تخنق نمو القطاع الخاص، وتمنعه من الاستثمار.
وأثار إقرار هذه الموازنة غضب الهيئات الاقتصادية، واستنسخ بعض المشاهد التي شهدها البلد في بداية الانهيار الاقتصادي عام 2019، على غرار طوابير الأشخاص الذين ينتظرون دورهم للحصول على الوقود أو الخبز مثلا.
ويعتبر أمين عام الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس أن الضريبة “الخطيرة” التي رشحت عن الموازنة، هي رفع الضريبة على أرباح المؤسسات من 17 إلى 25 في المئة، أسوةً بالضريبة على الدخل على الشريحة الأعلى من الأفراد.
وقال إن المؤسسات التجارية “الشرعية” تدفع هذه الضريبة، كما أنها تدفع ضريبة أخرى تصل إلى 10 في المئة عند توزيع الأرباح، ما يعني أنها تدفع قبل إقرار هذه الضريبة المزمعة نحو 25.3 في المئة.
ويشرح شماس هذه الضريبة بأنها تشمل الشركات التي استفادت من سياسة الدعم الحكومية التي بدأ تطبيقها في سبتمبر 2019.
ووصف هذه الموازنة بأنها “محاسبية صرفة”، ولا تحتوي على أيّ “رؤية اقتصادية أو مقاربة إصلاحية”، معتبرا أنه من الصعب على القطاع الخاص “المنكوب منذ 4 سنوات” تحمل هذا العبء، خصوصاً في ظل وجود فراغ في هرم السلطة.
وشملت سياسة الدعم في البداية 3 سلع رئيسية هي القمح والأدوية والوقود، ثم زادتها حكومة حسان دياب لاحقا إلى 30 ثم 300 سلعة.
وبموجب هذه السياسة، تتمكن الشركات من الحصول على دولار مدعوم بسعر أقل من أسعار السوق الموازية، مقابل استيراد كميات محددة من المنتجات الأساسية وبيعها بسعر مدعوم للمستهلك.
وأوضح شماس أن الضريبة “الاستثنائية على الأرباح الاستثنائية” أثارت غضبا، خاصة بسبب عدم الوضوح بشأن ما إذا كانت ستطال الأرباح أم مجمل الإيرادات، مبديا تحفظه على مبدأ فرضها بمفعول رجعي، لاسيما أن سياسة الدعم كانت سياسة دولة.
ولم يكن شماس، وهو نقيب الشركات المستوردة للمحروقات بعيدا في تبريره أسباب التوقف عن التسليم، إذ أكد أن فرض ضرائب على حجم الأعمال أمر غير منطقي.
وقال إن الحكومة هي التي حددت هامش الربح وسعر البيع، في حين أن الربح الصافي لهذه الشركات هو “أقل من واحد في المئة”.
وعادت الشركات إلى تسليم الوقود بعد يومين من توقفها، وذلك بعد تلقيها ضمانات بأن الضريبة ستكون على الأرباح، وليس على إجمالي الإيرادات.
ويشير شماس إلى أن الموازنة بشكل عام تساهم في “خنق قطاع منتج”، معتبراً أن حجم الاقتصاد الموازي بات يفوق حجم الشركات الرسمية.
ويعني هذا أن إيرادات الضرائب المفترضة ستكون أقل بسبب التهرب الضريبي، وبسبب توجه المستهلكين إلى الشراء من القطاعات “غير الشرعية” التي لا تدفع ضرائب، نظراً إلى أن كلفة المنتجات لديها أقل.
ونبه شماس في الوقت ذاته إلى أزمة أخرى تعصف بالشركات، وهي “التهريب عبر الحدود من دون حسيب أو رقيب”.
ولم يقتصر الاعتراض على هذه الضريبة على الشركات المستوردة للوقود، رغم أنه القطاع الوحيد الذي لجأ إلى وقف التسليم بغرض التهديد، إذ أطلق نقيب أصحاب المطاحن أحمد حطيط صرخة اعتراض على الموازنة، والضريبة المذكورة بشكل خاص.
واعتبر حطيط في تصريح لبلومبرغ الشرق عبر الهاتف، أنه لا يجوز فرض ضريبة على سياسة دعم اعتمدتها الحكومة، وهي من حدد آليات الدعم وعناصر الكلفة ونسبة الأرباح، وفرضت على القطاع الخاص والشركات تنفيذها.
ونظرا إلى أن المادة التي تؤمنها هذه الشركات مرتبطة بالأمن الغذائي في لبنان، أكد حطيط أنها لن تلجأ إلى مرحلة وقف تسليم الطحين، ولكنه أشار إلى أن إجراءات كهذه يمكن أن توصل القطاع إلى الإفلاس، وبالتالي توقفه قسرا.
وتوالت البيانات من الهيئات الاقتصادية التي تندد بهذه الضريبة، فقبل أيام، أعلنت نقابة مستوردي المواد الغذائية برئاسة هاني بحصلي استهجانها وتحفظها الشديدين على هذه المادة من الموازنة.
كما اعتبرت جمعية المستهلك الموازنة ككل “تعميما للخراب”، معتبرةً أن الطعن بها “ضروري”.
وتحمل الضريبة التي فرضتها الحكومة في طياتها رسائل تفيد بأن الشركات التي استفادت من الدعم حصدت الكثير من الأرباح خلال فترة الأزمة من خلال استغلال أسعار الصرف المختلفة أو حتى تهريب المواد إلى دول أخرى.
ولم ينكر المنتقدون وجود عمليات تهريب، بل ذهبوا أبعد من ذلك وأكدوا رفضهم لهذه التصرفات، معتبرين أنه من غير المنطقي معاقبة شركات القطاع بأكمله بسبب وجود من عمل على استغلال الأزمة.