يعدّ ميزان المدفوعات أحد أكثر المؤشّرات أهمّية في تحليل أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني. فهو عبارة عن بيان إحصائي يلخّص المعاملات الاقتصادية الجارية بين المقيمين وغير المقيمين في فترة زمنية معيّنة. بمعنى ما، تدلّ وضعية ميزان المدفوعات إلى حجم التدفّقات بالعملات الصعبة الداخلة إلى الاقتصاد بالمقارنة مع حجم التدفّقات الخارجة منه، وبالتالي ترتبط هذه الوضعية (عجز أم فائض) ارتباطاً وثيقاً بسعر صرف العملة المحلّية إزاء العملات الأخرى التي يتعامل بها المقيمين مع غير المقيمين، ولا سيّما إذا كان سعر الصرف مثبّتاً، ويتطلّب تثبيته تكوين احتياطات كافية ودائمة بالعملة الأجنبية المثبّت السعر إزاءها، أي الدولار في الحالة اللبنانية، فإذا حقّق ميزان المدفوعات فائضاً ستزداد الاحتياطات وسيمتلك البنك المركزي القدرة على تثبيت السعر، أمّا إذا حقّق عجزاً فسيضطر البنك المركزي إلى تمويل هذا العجز وسيستنزف احتياطاته التي راكمها من الفوائض المُحقّقة سابقاً، وفي حال استمرّ العجز لفترات طويلة سيفقد البنك المركزي تدريجياً قدرته على مواصلة التمويل، وقد ينهار سعر الصرف أو يضطر إلى تخفيضه.
بين عامَي 1991 و2010، حقّق ميزان المدفوعات فوائض سنوية متتالية، ما عدا في ثلاثة أعوام (1998 و2000 و2001)، ما سمح بتكوين احتياطات وأصول أجنبية مرتفعة نسبياً، إذ بلغ رصيد الفوائض المتراكمة في السنوات العشرين المذكورة نحو 28.6 مليار دولار، أي بمتوسّط سنوي بلغ 1.4 مليار دولار، علماً أن هذا المتوسّط ارتفع إلى 3.9 مليار دولار سنوياً بين عامي 2006 و2010. إلّا أن هذه الوضعية انقلبت إلى عجز متواصل اعتباراً من عام 2011 (ما عدا في عام 2016)، إذ بلغ رصيد العجوزات المتراكمة بين عامي 2011 و2018 نحو 13.2 مليار دولار، وبلغ متوسّط العجز السنوي نحو 1.6 مليار دولار، ووصل إلى 4.8 مليار دولار في العام الماضي، علماً أن حسابات ميزان المدفوعات لعام 2018 تضمّنت نحو 3.3 مليار دولار في بند «السهو والخطأ»، وهذا البند مثير جدّاً، كونه يسجّل فوائض دائمة بكمّيات لافتة من دون أن يكون مصدرها معروفاً، ما يعني أن هناك مبالغة في تقدير التدفّقات الداخلة إلى لبنانأو الخارجة منه، أو يعني ببساطة وجود أنواع من التدفّقات لا يجري تسجيلها رسمياً وتشكّل نسبة عالية من مجمل التدفّقات الخارجية إلى لبنان.