نسبة نمو 2022: أرقام مصرف لبنان تكذّب حاكمه

يدّعي حاكم مصرف لبنان أنّ أرقامه تؤكّد أنّ الناتج المحلّي الإجمالي للبنان حقق نموًّا بنسبة 2%، من دون أن يكشف المعادلات أو النماذج الحسابيّة التي اعتمدها للوصول إلى هذه الخلاصة، في ظل اتجاه السوق إلى الاقتصاد النقدي الذي يصعب تقفّي أثره.

والمفارقة الأساسيّة هنا، هي أنّ ترقّب النمو الاقتصادي لم يكن يومًا من مهام المصرف المركزي اللبناني، بل إدارة الاحصاء المركزي، التي كانت تحضّر النماذج الحسابيّة لتتبّع أرقام “الحسابات القوميّة” للبنان. وهذا ما يطرح السؤال عن سبب تدخّل مصرف لبنان المستجد، في هذا النوع من المهام التي لا ناقة له فيها ولا جمل.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ البنك الدولي، ذا الباع الطويل في هذه المهمّة بالتحديد، قدّر –وعلى عكس حسابات رياض سلامة- تسجيل الاقتصاد اللبناني انكماشًا في الناتج المحلّي عام 2022، لا نمو، وبنسبة سلبيّة تقدّر بـ5.4%.

أهميّة التدقيق في النسبة المزعومة

قد تبدو المسألة هامشيّة اليوم، طالما أن نسبة النمو الطفيفة المزعومة، إذا تحققت فعلًا بمعجزة ما، تأتي بعد انكماش الناتج المحلّي بنسبة إجماليّة قاربت 37% خلال السنوات الماضية، نتيجة الانهيار الحاصل. وهذا ما يجعل الحديث عن هذا النمو الهزيل أقرب إلى نكتة في عالم التحليلات الاقتصاديّة الرصينة. أمّا الأهم، فهو أننا نتحدّث عن نمو صغير لناتج محلّي لم يعد يتجاوز حجمه اليوم 21.3 مليار دولار، فيما تقابله كتلة من الخسائر غير المُعالجة بعد، والتي يتجاوز حجمها 73 مليار دولار، أي أكثر من 3.4 مرّات حجم الناتج نفسه.

ومع ذلك، قد يكون من المفيد التدقيق قليلًا في مزاعم حاكم مصرف لبنان، طالما أن مسؤولين كباراً، كرئيس الحكومة اللبنانيّة نفسه نجيب ميقاتي، تلقفوا مزاعمه، وراحوا يكرّرون الحديث عن هذا النمو غير المفهوم. وطالما أن مجموعة “خبراء الشاشة”، من أصحاب الباع الطويل في الدفاع عن المصالح المصرفيّة، تبنّوا هذا الادعاء بحماسة.

ولعلّ حماسة كل هؤلاء لهذا النسبة المزعومة، تتصل برغبتهم بالتقليل من شأن أو أهميّة مسار الحل المالي المتكامل، والذي يفترض أن يشمل أوّلًا الاعتراف بكتلة الخسائر ومعالجتها، وإعادة هيكلة القطاع المالي والدين العام، وهو ما نصّت عليه مذكرة التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي.

ولسان حال هؤلاء يقول: طالما أن الاقتصاد اللبناني بدأ بإعادة “دوزنة” نفسه، ولو بشكل بطيء، ما أهميّة تقديم التضحيات في سبيل الحل الأشمل والأكثر جذريّة مع المصارف؟ وما أهميّة الإصرار على الاصطدام بالمصالح السياسيّة والماليّة التي تحول دون تطبيق هذا الحل، لحماية الرساميل المصرفيّة بالتحديد، منذ ثلاث سنوات؟

هكذا، وبما أن هذا الرقم المزعوم بات شمّاعة يتم استعمالها للتقليل من شأن الحلول الفعليّة المطلوبة، وبما أنّ هذا الادعاء بات بابًا لحماية مصالح مصرفيّة معروفة على حساب المجتمع، بات التعامل مع هذا الادعاء ضرورة. والطريف في الأمر، هو أن كشف زيف هذا الادعاء بات ممكنًا اليوم، بالاستناد إلى أرقام مصرف لبنان، التي تكذّب ادعاءات الحاكم نفسه.

أرقام المؤشّر الاقتصادي العام

ينشر مصرف لبنان، على نحوٍ دوري، نتائج المؤشّر الاقتصادي العام، الذي يقيس الأداء الاقتصادي للبلاد عبر احتساب مجموعة واسعة من المعطيات. ويدخل في احتساب هذا المؤشّر 17 إحصاءً مختلفًا، بما يسمح بالتقاط وضعيّة الحركة التجاريّة وحالة قطاعات الاقتصاد الحقيقي، بالإضافة إلى حجم الاستهلاك الإجمالي. ورغم أنّ هذا المؤشّر لا يدل بشكل مباشر على نسبة النمو الاقتصادي المتوقّعة، إلا أنّ يعطي الإجابة الحاسمة حول ما إذا كان الاقتصاد اللبناني يسير باتجاه النمو أو الانكماش.

الأرقام التي نشرها المصرف المركزي مؤخّرًا تشير إلى أن المؤشّر الاقتصادي العام تراجع خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي إلى حدود 121.7 نقطة، مقارنة بنحو 147.1 نقطة خلال نهاية العام السابق. وبصورة أوضح، تراجع هذا المؤشّر خلال العام 2022 بنسبة 17.3%، بعدما تراجع في عام 2021 بنسبة 21.6%، ما يدل على حجم التراجع الذي شهده الاقتصاد الحقيقي في البلاد.

وأمام هذا المشهد، الذي ترسمه أرقام مصرف لبنان نفسه، يبدو من المستغرب الإشارة إلى أي نمو اقتصادي فعلي محقق خلال العام 2022. بل وعلى العكس تمامًا، تصبح أرقام البنك الدولي، التي أشارت إلى تسجيل انكماش بنسبة 5.4% خلال ذلك العام، أرقامًا متفائلة، قياسًا بالتراجع الذي تعكسه أرقام المؤشّر الاقتصاد العام.

في جميع الحالات، وبعد جميع التراجعات التي شهدها المؤشر الاقتصادي العام منذ بدء الأزمة، عاد مستوى المؤشّر اليوم إلى مستوياته السابقة في آذار 2009، أي أنه خسر كل التحسّنات التي حققها منذ 14 عامًا. وهذه الحقيقة، تتقاطع مع ما أعلن عنه البنك الدولي، من أنّ لبنان خسر –خلال الأزمة الراهنة- كل النمو الاقتصادي الذي تحقق على مدار 15 سنة الماضية. ولذلك، وبعكس ادعاءات المتفائلين، الذي يشيرون إلى اتجاه الاقتصاد لأعادة “دوزنة” نفسه من دون خطّة ماليّة شاملة، يبدو من الواضح أن الاقتصاد اللبناني لم يسجّل أي تعافٍ ملحوظ حتّى اللحظة، بما يعوّض ولو جزء من الانكماش الذي حصل خلال الأعوام الماضية.

في النتيجة، وكما أشار المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي جان كريستوف، ستسهم كل هذه التطوّرات باستنفاد رأس مال لبنان المادّي والبشري والاجتماعي والمؤسسي، على نحوٍ قد يتعذّر إصلاحه لاحقًا. وهذا تحديدًا ما يفترض أن يدفع باتجاه الحل المنصف والشامل، القادر على إعادة الاستقرار للقطاع المالي، وبما يسمح بتوزيع خسائر الأزمة بعدل. أمّا إنكار هذا الواقع، وادعاء تحقيق نسب نمو في هذه المرحلة بالتحديد، للتملّص من الحلول الفعليّة والشاملة، فلا يسهم اليوم إلا في زيادة الاستنزاف الحاصل على جميع المستويات. وهذا تحديدًا ما يفترض أن يدفع الجميع للحذر من هذا النوع من السرديّات.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةفيّاض: نفّذنا شروط البنك الدوليّ لاستقبال الغاز المصريّ
المقالة القادمةالمستشفيات تطالب بمؤشِّر بالدولار يحمي مستحقاتها