نسخة لبنانيّة لسام فريدمان: من يضبط أطفال الكريبتو؟

لن يحتاج الأمر إلى إخفاء الإسم بالأحرف الأولى. باتت القصّة على كل لسان في صيدا وضواحيها، وباتت رسائل الضحايا الصوتيّة تطير كالحمام بين غروبات “الواتساب”، تمامًا كصور الشخص المعني بالموضوع. إسمه مصطفى الشرقاوي، طالب بعمر 16 سنة، في صفوف المدرسة الثانويّة. قبل أيّام، غادر مصطفى البلاد إلى نيجيريا، حيث يقيم والده، تاركًا ألف علامة استفهام حول استثمارات يُقال أن حجمها تجاوز المليوني دولار، وظفها “مستثمرون” في “شركته” المتخصصة بتداول العملات الرقميّة. هجرة مفاجئة، استبقها المراهق المستثمر بالتواري عن الأنظار لفترة، وبتكليف والده لمحامٍ عمل على التمهيد للطامة الكبرى، بالحديث عن “خسائر” تتراكم في “سوق العملات الرقميّة”.

أرباح خياليّة

سيبدو الأمر أشبه بنكتة سمجة. مليونا دولار من أكثر من 300 مستثمر، بيد فتى لم يدخل صفوف الجامعة بعد. لكنّ الدخول في تفاصيل القصّة سيكشف ما هو أفظع: بدأت الحكاية منذ ثلاث سنوات، قبل أن يبلغ مصطفى 13 عامًا. ذاع صيته في مقاهي المدينة الشعبيّة كطفل معجزة، عبقري، ثم بدأت الأمور تفلت عن السيطرة كليًّا. يتحدّث عارفوه عن مكتب، وشركة وهميّة، وموظفين، وإيصالات، وأرباح خياليّة بدأ بتوزيعها على “المستثمرين” الطامعين بأرباح عالم الكريبتو السهلة. وطوال هذه المدّة، كانت قيمة الاستثمارات التي تصب في محفظة مصطفى تتراوح بين 20 دولارًا وبضعة مئات الآلاف من الدولارات.

وتمامًا كحالة صلاح عز الدين، آخر حكايات “نماذج البونزي” الكبرى التي خبرها الجنوب قبل أكثر من 13 سنة (راجع المدن)، كان الربح الكبير يدفع المزيد من رواد المقاهي، أو المستثمرين المحتملين، للتورّط في متاهات “الطفل العبقري”. قد يحلو لبعض الجنوبيين تذكّر نموذج البونزي القديم، وإطلاق عبارة “ميني-صلاح” على المعجزة الناشئة، إلا أن تشابه قصّته مع قصّة شركة أف.تي.أكس.، التي عملت بدورها في سوق العملات الرقميّة، تدفعنا إلى الاعتقاد بأننا أمام نسخة لبنانيّة مصغرة من سام فريدمان، صاحب أف.تي.أكس. وبطل فضيحتها.

المهزلة

لا يهم السؤال عن سبب ما جرى، وإذا ما كان مصطفى قد تكبّد خسائر كبيرة، نتيجة تقلبات سوق العملات الرقميّة، أو إذا كان المخطط احتياليًا منذ البداية. في الأصل، لا معنى لهذا النقاش حين نكون أمام مهزلة، قوامها مئات المستثمرين وملايين الدولارات بيد مراهق، يوزّع الأرباح الخياليّة يمنةً ويسرى. لا معنى لحسن النيّة أو سوئها أمام فضيحة كهذه. في سيرك مالي مجنون كهذا، يصبح الاحتيال المنظّم والتهريج بأموال الناس سيّان. لا فرق. هل توقّع أحدٌ أن يتمكن هذا الصبي من توليد الأرباح الموعودة، التي يقال أنها تجاوزت 100% من قيمة الاستثمارات، إلى ما لا نهاية؟ ألم يتوقّع أحد مآل هذا السيرك؟

إلا أنّ كل ما سبق، يدفع إلى السؤال عن لاعبين آخرين غابوا طوال السنوات الثلاث، التي شهدت صعود “الطفل العبقري” ومن ثم هبوطه. ألم تشعر الأجهزة الأمنيّة بشيء طوال هذه المدّة؟ ألم يصل إلى مسامعها حكاية الفتى الذي يتبعه روّاد المقاهي آخر الليل، لتوظيف أموالهم في جنّة الكريبتو؟ ألم يسمعوا بالفتى الذي يأخذ منك المال ويعيده إليك مضاعفًا؟ فيما تملك الأجهزة نفسها القدرة على ملاحقة أصغر مقهى يقرّر تجاوز احتكار الشركة المحليّة التي تبيع حق نقل مباريات المونديال. وماذا عن هيئة الأسواق الماليّة في مصرف لبنان، وغيرها من الجهات التي كان يفترض أن تلتفت لمأساة ماليّة من هذا النوع؟

في جميع الحالات، لم تبتعد حالة مصطفى عن سياق أشمل، شهدته أسواق الكريبتو في جميع أنحاء العالم، بعدما راجت التداولات في هذه الأسواق، بعيدًا عن أي رقابة محليّة أو دوليّة. سام فريدمان، النموذج الكبير لهذا النوع من العمليّات الاحتياليّة، كان بدوره شاباً يافعاً تضخّمت ثروته على حين غرّة، بانيًا امبراطوريّته الماليّة على جيش من المستثمرين الحالمين بأرباح سوق الكريبتو السريعة والسهلة. يقول عارفو سام أنّه كان يلعب ألعاب الفيديو خلال اجتماعاته مع المستثمرين، الذي كانوا ينبهرون بكاريزما “الشاب المعجزة”، ورؤيته لعوالم المال البديلة. وحول سام، اصطفّ مراهقون حديثو التخرّج، من الذين استلموا أعلى المراكز في الشركات التي أفلست لاحقًا. وبمثل هذه النماذج، نهضت أف.تي.أكس.، قبل أن ينكشف نموذجها الاحتيالي ويسقط.

بغياب الأنظمة الرقابيّة، من يضبط “أطفال” عالم الكريبتو؟

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةإغراءات أميركية تختطف الاستثمارات الخضراء من أوروبا
المقالة القادمةالقطاع الخاص يدفع رواتب موظفي الدولة: المواطنون “يأكلون” بعضهم