أثارت فكرة تقسيم بلديّة بيروت، وفقًا لخطوط تماس الحرب الأهليّة، حفيظة الكثيرين داخل وخارج العاصمة، وذلك من حيث المبدأ وتجاه أصل الفكرة، بمعزل عن تفاصيل مشروع القانون الذي أعدّه نوّاب التيار الوطني لتحقيق هذه الفكرة (النص الأصلي لمشروع القانون).
وفي واقع الأمر، وعند طرح الفكرة، تفاعل البعض مع النقاش وقدموا حججهم ضد هذا المشروع، معتقدين أنّ ما يطرحه التيّار الوطني الحر هنا فكرة جديّة أو عمليّة تستحق الرد عليها، أو تقديم الحجج ضدها خوفًا من تطبيقها. لكن ما إن تم نشر مشروع القانون، الذي تقدّم به النوّاب إدكار طرابلسي ونقولا الصحناوي وسيزار أبي خليل، حتّى تبيّن أن المطروح ليس سوى تهريج تشريعي، يمكن تصنيفه في خانة النكتة السمجة في عالم مشاريع القانون. ببساطة، ما قدّمه العونيون لم يكن مشروع قانون عملي قابل للبحث أو التطبيق، بل كان مجرّد عراضة شكليّة أراد منها تسجيل بعض النقاط الشعبويّة في مرمى الآخرين.
شرقية وغربيّة وترسيم حدود
حسب مشروع القانون، سيكون هناك مجلس خاص لبلديّة بيروت الأولى، أو بعبارة أوضح، الجزء الخاص ببيروت الشرقيّة كما قسّمتها خطوط تماس الحرب الأهليّة، ومجلس آخر لمنطقة بيروت الغربيّة. بالتأكيد، يقدّم مشروع القانون فكرة تقسيم المدينة إلى البلديتين على أساس توزيع الأحياء بينهما. فتضم بلديّة بيروت الأولى أحياء الأشرفيّة والصيفي والرميل والمدوّر والمرفأ، فيما تضم بلديّة بيروت الثانية كل من مينا الحصن والباشورة ورأس بيروت والمصيطبة وزقاق البلاط والمزرعة وعين المريسة. لكن من الناحية العمليّة، يدرك كل من يقرأ مشروع القانون أنّه لا يوجد أي مبرّر لتوزيع الأحياء على البلديتين على هذا النحو، إلا بمعيار خط تماس الحرب الأهليّة، الممتد من المرفأ إلى المتحف.
يدرك من أعدّ مشروع القانون أن خط التماس بين البلديّتين المقترحتين غير مرسوم بدقة بعد، حتّى إذا اعتمدنا حدود الأحياء لذلك، لكونها المرّة الأولى التي يتم فيها تقسيم العاصمة بلديًّا. وهذه إشكاليّة بالغة الأهميّة، نظرًا لحاجة التقسيم إلى “ترسيم الحدود” دقيق، كون حدود البلديّة يتصل بنطاق جباية رسومها.
يقرّر مشروع القانون أن يقفز على المسألة بخفّة، معطيًا المحافظ صلاحيّة إجراء “ترسيم الحدود” هذه للمحافظ، بالاستعانة بمديريّة الشؤون الجغرافيّة في الجيش اللبناني، ودوائر المساحة… والمكاتب الهندسيّة الخاصّة. مع الإشارة إلى أن من أعدّ مشروع القانون يدرك أنّه يترك خلفه، في هذا البند من مشروعه، لغمًا متفجرًا لا تُحمد عقباه، بما يتصل بخطوط التماس بين مناطق نفوذ الحرب الأهليّة، خصوصًا أن مشروع القانون لم يقدّم أي معيار واضح لكيفيّة ترسيم هذه الحدود، باستثناء إحالتها للحدود بين الأحياء غير المرسّمة بدقّة بعد. وعند الترسيم، ستؤدّي إضافة زاروب صغير، أو ربما بضعة عقارات، إلى حدود هذه البلديّة أو تلك، إلى زيادة الواردات بشكل معتبر من مشروع ما وصفقة ما. وهناك، ستختلط حسابات المال والصفقات بشعارات الدفاع عن المنطقة وحدودها، في تطبيق قانون تفوح منه أساسًا روائح متاريس الحرب الأهليّة.
المجلس المشترك
بمعزل عن إشكاليّة الترسيم، يدرك من أن أعد مشروع القانون أن بلديّة بيروت ستُقسّم إلى بلديّتين شكلًا، لكنها ستحتاج إلى العمل كبلديّة واحدة في المشاريع التي سيتم تخطيطها على مستوى العاصمة، كحال مشاريع الصرف الصحّي ومحطات التكرير والنقل المشترك وتنفيذ وصيانة الطرقات الكبرى وإدارة ملف النفايات والحوكمة الرقميّة وغيرها.
الطريف في الموضوع، هو أن مشروع القانون نفسه يضع لائحة بهذه المشاريع المشتركة، التي لا يمكن العمل عليها إلا كبلديّة واحدة، ما يشير إلى معرفة من أعد القانون أن فكرة التقسيم ستخلق مجلسين منفصلين شكلًا، لكنهما سيضطرّان إلى إدارة نزاعاتهما وخلافاتهما كل الوقت، للعمل على هذه المشاريع الموحدة بينهما. هنا يتبادر إلى ذهن القارئ مجددًا السؤال عن غاية مشروع القانون الهجين هذا، والفكرة من هذه “الخبصة” العجيبة.
على أي حال، سنكون إذًا أمام تقسيم للمسؤوليّات بين المجلسين، وبصيغة تولّد تضارباً في الصلاحيات بينهما، من أجل العمل على مشاريع مشتركة على مستوى العاصمة. فما هي الصيغة العبقريّة التي لجأ إليها مشروع القانون لتوزيع الصلاحيّات، وتحديد آليّة اتخاذ القرار، على هذا النحو؟ أي صيغة تسمح بنشوء بلديتين منفصلتين، بمجلسين منتخبين، ثم تفرض عملهما معًا تحت مظلّة واحدة؟
سيجتمع المجلسان مرّة في الشهر، برئاسة محافظ بيروت حين يحضر، وبجدول أعمال يعدّه قلم المحافظة. الصيغة الهيجنة، من حيث ترؤّس المحافظ للمجلس البلدي الموحّد، تذكّر بشكل من الأشكال بصيغة متصرفيّة جبل لبنان أيام السلطنة العثمانيّة، يوم نصّت الصيغة على تسليم المتصرفيّة لمسيحي عثماني من خارج جبل لبنان، تعينة السلطة العثمانيّة. في حالتنا الراهنة، ولتفادي “شد الحبال” على رئاسة المجلس المشترك، بين شطري العاصمة المسلم والمسيحي، سيتم تسليم رئاسة الجلسات وصلاحيّة وضع جدول الأعمال لإداري من خارج البلديتين، تعينه الحكومة اللبنانيّة، أي محافظ بيروت. المسألة تبدو طريفة إلى حدٍّ ما، حين ينص مشروع قانون على تسليم صلاحيّات بلديّة لشخص غير منتخب، من خارج المجلسين المنتخبين، لمجرّد تفادي خلاف “بيروت الشرقية مع بيروت الغربيّة” على رئاسة المجلس المشترك. مجددًا، ما الهدف من هذه “الخبصة”؟ ما الهدف من هذه الهيكليّة الهجينة وغير المألوفة في إدارة العمل البلديّة؟
صلاحيات تقريريّة لوزير الداخليّة وتنفيذيّة للمحافظ
يتابع مشروع القانون، سيجتمع المجلسان معًا –كمجلس مشترك- مرّة في الشهر، وسيدخران الأموال في صندوق مشترك، وإذا اختلف المجلسان في طريقة إدارة أموال الصندوق، أو في طريقة تنفيذ أحد المشاريع المشتركة، تُرفع المسألة إلى وزير الداخليّة للبت بها. أما تنفيذ المشاريع نفسها، فيقع على عاتق “الجهاز التنفيذي” التابع للمحافظ. وهكذا، تصبح المسألة أقرب إلى مجالس الملل المذهبيّة المختلطة، من حيث توزيع الصلاحيّات على جهات من خارج المجلس المشترك المنتخب، لحل النزاعات التي ستنتج عن تقسيم المجلس البلدي ما بين “بيروت الشرقيّة” و”بيروت الغربيّة”. أمّا النكتة الفعليّة، فتكمن في درجة الصلاحيّات التي سيتنازل عنها المجلس البلدي المشترك المنتخب، لمصلحة أجهزة الدولة التنفيذيّة الأخرى، أي المحافظ ووزير الداخليّة، والتي تصل إلى حد إدارة المشاريع واتخاذ القرارات!
مجددًا، ما الهدف؟
لا شيء في مشروع القانون يتناسق مع فكرة العمل البلدي، وإعطاء الصلاحيّات للبلديّات بشكل لامركزي لإدارة شؤونها، بالنظر إلى حجم الصلاحيّات التي ينزعها القانون من البلديّة، لمصلحة المحافظ ووزير الداخليّة.
ولا شيء في مشروع القانون يضمن أدنى حد من الفعاليّة في عمل المجلس البلدي المشترك، إذ يحوّل مشروع القانون هذا المجلس إلى رهينة توافق مجلسي الشرقية والغربيّة، وإلى رهينة أطر حلّ النزاعات من خلال المحافظ ووزير الداخليّة. وبدل الانسجام كمجلس واحد، برؤية مشتركة، سيكوّن لكل من المجلسين رؤيته الخاصّة، وسيحتاج المجلس المشترك إلى ضمان التوافق الدائم للحفاظ على وحدة البلديّة. باختصار، من كتب مشروع القانون يدرك أن ما وضعه ليس سوى نكتة في عالم التشريع، وأنه لم يقم إلا بعراضة شعبويّة طائفيّة دعائيّة، قبيل الانتخابات البلديّة المقبلة. هو مشروع ولد ميتًا.