منذ نشوء لبنان والسؤال عن هويّته الاقتصادية يرافقه. وفي السنوات القليلة الماضية تعقدت المعطيات بشكل كبير وأحدثت الازمات السياسية والامنية والاقتصادية والمالية والاجتماعية تحوّلات جذرية على صعيد الاقتصاد الذي أخذ أشكالاً متعددة ليواكب ويتأقلم مع الفلتان السياسي والامني والاجتماعي والاقتصادي، حتى بات مسخاً! لم يعد للاقتصاد هوية واضحة في الممارسة وليس في القوانين، وأصبح خليطاً من سياسات اقتصادية فشلت جميعها في إنقاذه ونموه أو حتّى وضعه على سكة واضحة المعالم لتكوين هوية ما.
إيراديان: نظام رأسمالي مافيوي ظهرت فيه أوليغارشية على أنقاض الدولة
اعتبر كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «معهد التمويل الدولي» د. غربيس إيراديان ان النظام الاقتصادي الحالي في لبنان هو مرآة لنظامه السياسي، «لذلك هو أقرب إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي المافيوي». موضحاً لـ»نداء الوطن» ان نظام تقاسم السلطة، وضعف المؤسسات الحكومية، بالاضافة الى الفساد المتفشي أدّت جميعها الى ظهور نظام الاقتصاد الرأسمالي المافيوي منذ اتفاق الطائف في العام 1990 الذي ساهم في تفكيك عملية صنع القرار وأضعف سلطة رئيس الجمهورية وسلطة المؤسسات الحكومية.
ورأى إيراديان انه مع تفكك السلطة السياسية وانتشارها بين مختلف الجهات الفاعلة، ازدهر النظام الاقتصادي الرأسمالي بأسلوب مافيوي خلال العقدين الماضيين، مع تفاقم التهرب الضريبي وزيادة عمليات تهريب السلع عبر الحدود.
اضاف: ظهرت طبقة أوليغارشية قوية استفادت من الفوضى والضعف الحكومي، ونجحت في تجاوز الاختلافات الطائفية والمذهبية، لدرجة انها تبدو فعلاً تتمتع بتعاطف المؤسسات الدينية.
وشرح إيراديان ان اتخاذ القرارات الاقتصادية من قبل الحكومة يتطلب شبه إجماع بين ممثلي الطوائف الكبرى، بينما تشكل المؤسسات الحكومية الضعيفة أرضاً خصبة لنشوء وتطور النظام الاقتصادي الرأسمالي المافيوي. مشدداً على ان الديمقراطية الاقتصادية أو اعتماد نظام اقتصادي رأسمالي لا يضمن تدمير تلك المافيا والقضاء عليها، لان أساليب الجريمة المنظمة تعتمد على المؤسسات الديمقراطية والاستبدادية لدعم مصالحها.
وخلص إيراديان بالتأكيد ان العودة إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي السوقي الكفوء الذي تبناه لبنان بين العام 1943 و 1975، يجب أن يتم بموازاة تفعيل المؤسسات الحكومية، وتحسين اتفاق الطائف، والتطبيق الصارم لسيادة القانون بالتساوي، على جميع المواطنين.
من جهته، رأى الاستاذ الجامعي في العلاقات الدولية والدبلوماسية د. نعيم سالم ان لبنان تمتع منذ عقود باقتصاد رأسمالي ولكن ليس على غرار النهج الغربي الكلاسيكي للرأسمالية، حيث كان اقتصاد لبنان رأسمالياً احتكارياً الى حدّ ما، إن كان على صعيد المؤسسات الكبرى مثل القطاع المصرفي وغيره او على صعيد بعض القوانين مثل قوانين الايجارات التي تمنح المستأجرين احتكاراً على أصحاب الاملاك بحيث لا يحكم القضاء لصالح صاحب الحق عند نشوب نزاع بين الطرفين. علماً انه في الانظمة الرأسمالية الكلاسيكية، لا يسمح أصحاب المال والنفوذ بسيطرة الآخرين على أملاكهم «لان حق المالك مقدّس». وبالتالي قال سالم ان هذا مثال على «أزمة اجتماعية ارتأت الدولة تحميل عبئها للمالكين لتفادي معالجة تبعاتها الاجتماعية على صعيد الدولة».ومع تدهور الاوضاع في لبنان منذ الحرب ولغاية اليوم، بسبب الفساد وهيمنة الميليشيات على ادارات الدولة ومؤسساتها وبسط سلطتها على الصعيد التنفيذي والتشريعي والقضائي، استطاعت الطبقة الحاكمة تمرير قوانين على قياسها ووفق مصالحها، «ليصبح النظام بخدمة الطبقة السياسية والطائفية نفسها، ممدّداً سيطرتها وهيمنتها على النظام السياسي والاقتصادي وعلى المجتمع ككلّ، مما عرقل تطور الاقتصاد في لبنان بشكل سليم وأدى في نهاية المطاف وعلى مرّ العقود، الى الانهيار الكبير الذي حصل في 2019 ويستمر لغاية اليوم، والذي لا مثيل له عالمياً. والذي لم يكن ليحصل لولا تواطؤ الطبقة الحاكمة على المودعين، وتهريب ما هرّب من اموال السياسيين والنافذين في القطاع المصرفي الى الخارج. وكان الضحية، المواطن اللبناني والمدّخر والمغترب اللبناني الذي كان يرفد الاقتصاد بمليارات الدولارات سنوياً، والذي صودرت امواله من قبل المصارف بالتواطؤ مع الدولة اللبنانية. واكد سالم ان هوية الاقتصاد اللبناني الحالية هي خليط من نماذج متعددة، ويمكن بسهولة اعتباره اقتصاداً احتكارياً مافيوياً، لانه نظام لا تسيّره ولا تسوده القوانين رغم وجودها في بعض الحالات، ولكن ضغوطات السياسيين وهيمنتهم على القضاء تمنع تطبيق القوانين والبتّ بالدعاوى القضائية. واشار الى ان النظام يمكن ايضاً وصفه بالمافيوي لان الدولة قابعة تحت سيطرة اولياء الامر السياسيين والطائفيين والمافيويين، وبالتالي فان الطريقة التي تدار بها الدولة تتبع سلوكيات مافيوية وليس سلوكيات صناع قرار وصناع سياسات يتّبعون القانون.
نموذج غير متّسق ومتضارب المصالح بإدارة مسؤولين فاسدين وغير أكفاء
بدوره، وصف مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، النموذج الاقتصادي الذي تم تبنيه في لبنان منذ أوائل التسعينات، بأنه واحد من أكثر نماذج الاقتصاد الكلي فساداً وعدم اتساق على الإطلاق اعتمدته أي دولة في التاريخ الحديث.
وقال لـ»نداء الوطن» ان النموذج المعتمد، لم يكن أوّلاً، متوافقاً مع النظام السياسي في البلاد. شارحاً انه عندما يتم تعيين «أمراء الحرب» في مراكز سلطة وفي ظل نظام طائفي، ليس منطقيا على الصعيد الاقتصادي، ما حصل لناحية تضخيم حجم القطاع العام. ونتيجة لذلك، عندما كانت البلدان في جميع أنحاء العالم منهمكة ببناء مؤسسات اقتصادية واقتصادات قوية وتحسين مستويات معيشة سكانها، كان السياسيون اللبنانيون منشغلين ببناء إمبراطورياتهم الخاصة داخل القطاع العام وتوظيف مؤيديهم غير الأكفاء في المؤسسات الحكومية لتصميم وتنسيق السياسات وإدارة السياسة العامة. معتبراً انه كان ينبغي على لبنان أن يسعى إلى تأسيس أصغر قطاع عام حجماً ممكناً، لتجنب تفعيل سلطة «أمراء الحرب».
ثانياً، رأى المسؤول السابق في صندوق النقد الدلي انه لم يكن جائزاً أبداً تثبيت سعر الصرف، «هذا القرار تم اتخاذه بين السياسيين والحاكم السابق لمصرف لبنان». معتبراً انه كان يجب اعتماد نظام سعر الصرف المعوّم كآلية تصحيحية، لمعاقبة السياسات المالية الفضفاضة والمشوهة التي تم تطبيقها على مر السنين، «والأهم من ذلك، أنه كان من الممكن إنقاذ النظام المصرفي والودائع في ظل نظام سعر الصرف العائم. كما كانت الحال خلال الحرب الأهلية».
وثالثاً، اشار المسؤول الدولي الى انه لم تكن هناك أسواق لرأس المال في لبنان لمعاقبة السياسات الاقتصادية غير المستدامة، «كان لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي يعيّن فيها حاكم البنك المركزي رئيساً لهيئة سوق رأس المال، بدلاً من أن يكون هناك جدار بين مصرف لبنان وهيئة أسواق المال لتجنب تضارب المصالح والتستر والتعمية على الصفقات التي ينكشف جزء منها اليوم.
وخلص المسؤول الى ان النموذج الاقتصادي المتّبع منذ أوائل التسعينات، كان يهدف إلى تمكين وإثراء أمراء الحرب، وكان حاكم البنك المركزي السابق الذي استخدم الميزانية العمومية لمصرف لبنان على هواه، «محاسبهم الشخصي». لافتاً الى ان سياسات مصرف لبنان لعبت دور الركيزة اللازمة للحفاظ على النظام الاقتصادي الفاسد الذي تم إنشاؤه، مشدداً على ان وجود بنك مركزي مستقل، كما كانت الحال في لبنان قبل العام 1992 بادارة فريق اقتصادي قوي على دراية بالمفاهيم الأساسية لاستدامة الاقتصاد الكلي، كان ليتوقف عن تمويل الدولة ويتشبث بقرار اعتماد سعر صرف معوم منذ زمن طويل.
وبالتالي، أكد المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي ان لبنان يتمتّع بنموذج اقتصادي غير متّسق ومتضارب، خاص به وفريد من نوعه، يديره مسؤولون فاسدون وغير أكفاء. وعلى عكس ما يدّعي كثيرون، لم يكن لدى لبنان يتمتّع باقتصاد السوق الحر، منذ العام 1992.