في الغالب، تستفيد الكثير من الدول التي تشهد أزمات اقتصادية ومالية ونقدية، من انخفاض قيمة عملتها المحلية. إذ تكتسب بذلك قدرة تنافسية سياحية مع باقي الدول، فيجذب انخفاض الأسعار المزيد من السيّاح، وتنتعش الحركة بناءً على المبدأ التجاري الذي يرتكز على الربح القليل والبيع الكثير وتحريك السوق، وتالياً تنشيط الحركة الاقتصادية التي تتوسّع من القطاع السياحي إلى باقي القطاعات.
لكن في لبنان، أخذَ القطاع السياحي يستعيد بعضاً من أشكاله التي سبقت تسارع الأزمة في العام 2019. ومع دولرة الأسعار، عادت المؤسسات السياحية إلى فواتيرها المرتفعة. فأين ذهبت دولارات الموسم السياحي الصيفي؟ وهل دخلت في حركة الاقتصاد أم بقيت في أدراج المؤسسات؟
لبنان يستورد ويصدِّر السيّاح
رحَّبَ أهل القطاع السياحي بالحركة الكبيرة التي سجّلها مطار بيروت خلال فصل الصيف. فالحجوزات التي سجّلتها مكاتب السياحة والسفر ورحلات الطائرات التي وصلت إلى المطار، تبيِّن أن “القطاع السياحي بدأ يستعيد عافيته كما كان بين العامين 2018 و2019″، على حد تعبير نقيب أصحاب مكاتب السفر والسياحة، جان عبود، الذي أوضح لـ”المدن”، أن ما شهده لبنان خلال فترة الصيف “استبق فترة التعافي التي حدّدتها منظمة الطيران الدولي، التي أعطت مهلة حتى العام 2025 لتعافي القطاع السياحي على المستوى الدولي”.
التعافي السريع لوحِظَ عبر “الحركة النشطة والمشجّعة والمفيدة، التي ستستمر حتى نهاية شهر أيلول. ومن المتوقَّع تسجيل رقم 2 مليون وافد إلى لبنان كحصيلة للفترة الممتدة بين بداية شهر حزيران ونهاية شهر أيلول”. وبالتأكيد ليس كل الوافدين سيّاحاً، إذ النسبة الأكبر منهم مغتربون لبنانيون “ونحو 38 بالمئة سيّاحاً، عرباً وأجانب”.
أما عن إيرادات الموسم السياحي، فلا أرقام حاسمة بعد، ومن المتوقّع أن تبلغ نحو 5 مليار دولار، في حين كانت الإيرادات قد سجّلت العام الماضي نحو 4 مليار دولار. والجدير ذكره أن هذه أرقامٌ عامة تأخذ بعين الاعتبار مجمل الإنفاق، ولا تميِّز بين الدولارات التي حملها السائحون وتلك التي حملها المغتربون اللبنانيون الذين كانوا قبل الأزمة يعتمدون على التحويلات لإدخال أموالهم إلى البلد. وعليه، إن ما يُسَجَّل كإيرادات في الموسم السياحي، لا ينفصل عن أموال اللبنانيين الذين لا يمكن اعتبارهم سيّاحاً، وهم الأغلبية الساحقة التي تنعش الموسم السياحي.
ويؤكّد عبّود أن الموسم السياحي الصيفي “بدأ بالانحسار وسيستمر حتى منتصف أيلول”. بعد هذه الفترة، أي من النصف الثاني لأيلول حتى شهر تشرين الأول، سيزيد معدّل وصول السيّاح من دول أوروبا الشرقية. ومع أن “إنفاقهم خجول لكنّهم يُحتَسبون في معدّلات السياحة”. ويشرح عبّود سبب اهتمام سيّاح أوروبا الشرقية بلبنان، ويعيد ذلك إلى “المعارض العالمية التي يشارك فيها لبنان، فضلاً عن الدعاية والترويج التي تقوم بها وكالات السياحة والسفر في تلك الدول”.
خلاصة الموسم السياحي الصيفي للعام 2023 تعطي برأي عبّود دفعاً إيجابياً باتجاه استعادة زخم القطاع كما كان في سابق عهده “مع بداية العام 2024″، ليُستَكمَل ذلك بافتتاح الموسم السياحي الشتوي. ويلفت النظر إلى أن نجاح الموسم السياحي كان بشقّيه، السياحة التصديرية والاستيرادية، إذ يصدّر لبنان سيّاحاً كما يستوردهم، وهو تعبير يدل على أن اللبنانيين عادوا إلى نشاطهم السياحي نحو الخارج وليس فقط في الداخل.
التأثيرات ليست سريعة
أدخلت الحركة السياحية دولارات كثيرة إلى لبنان وغذَّت اقتصاد الكاش. ومع رفع المؤسسات السياحية بكافة أنواعها أسعار السلع والخدمات بالدولار، حققت هي أيضاً مكاسب مالية كبيرة أنعشتها وحققت لأصحابها أرباحاً انعكس بعضها على الموظفين عبر زيادة رواتبهم وأجورهم التي توزّعت بين الليرة والدولار، لكنها كما في السابق، بقيت دون المستوى المطلوب والمتناسب مع حجم غلاء الأسعار في السوق، سواء للسلع أو لإيجارات المنازل.
وتجاوزاً لمعضلة غياب العدالة في توزيع العائدات بما يتلاءم مع ناتج عمل الموظّفين، يبقى السؤال الأشمل هو انعكاس الانتعاش السياحي على الاقتصاد العام. والأكيد قبل كل شيء، هو أن القطاع السياحي أدخَلَ دولارات “كاش” تم تداولها في السوق نقداً، وهذا ما “ساهم في زيادة عرض الدولار في السوق وضبط ارتفاع أسعاره”، على حد توصيف الخبير الاقتصادي باتريك مارديني الذي أشار في حديث لـ”المدن”، إلى أن توفُّر الدولار النقدي “خفَّفَ حاجة مصرف لبنان إلى طباعة الليرة، فحافظَ بذلك على كتلة نقدية مستقرة بالليرة، وأمَّنَ التوازن بين عرض الكتلة النقدية بالدولار وبين طباعة الليرة لتغطية النفقات. ما أدّى إلى عدم ارتفاع أسعار الدولار”.
الدولارات التي اجتذبها القطاع السياحي بمطاعمه وفنادقه ومؤسساته كافة، ستترك أثراً في الاقتصاد لأنها “ستتوزَّع على كل القطاعات لتغطية مصاريف اللبنانيين، لكن تأثيرها في السوق لن يُلتَمَس سريعاً لأنها مرتبطة بوتيرة الإنفاق ونوعه”. وأولى التأثيرات يمكن التماسها بزيادة الإنفاق في شهر أيلول “على التموين وشراء المازوت ودفع أكلاف الأقساط المدرسية والجامعات وشراء لوازمها. بالإضافة إلى دفع فواتير الكهرباء واشتراك المولّدات الخاصة للمنازل والمؤسسات، ومنها المؤسسات السياحية… وما إلى ذلك”. أي أن ما حصّله القطاع السياحي، سيبدأ بالظهور في القطاعات الأخرى خلال شهري أيلول وتشرين الأول.
ضمان استقرار سعر الدولار
توفُّر الدولار في السوق خلال الموسم السياحي مدعوماً بدولارات المغتربين، لن يكون بالوتيرة نفسها مع انتهاء الموسم مع اختتام شهر أيلول. وبالتالي، على المصرف المركزي البدء بالتفكير في كيفية إدارة توفُّر الدولارات في السوق. وبذلك يتساءل مارديني حول ما إذا كان المصرف المركزي “سيزيد طباعة الليرة لتغطية النفقات، مع انحسار توفُّر الدولارات التي كان يؤمِّن جزءاً كبيراً منها لموظفي الدولة عبر منصة صيرفة”.
ناهيك عن أن ما يُنفقه أصحاب المؤسسات السياحية وموظفيها وأجراؤها خلال فترة الموسم السياحي، سيتقلَّص خلال فترة الشتاء، ما يستدعي الإلتفات نحو تخفيض وتيرة عرض الدولار في السوق.
ولأن ارتفاع سعر صرف الدولار يخضع في جزء كبير إلى القرار السياسي، يُنتَظَر في هذه الحالة ما ستؤول إليه الأمور بين حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري وبين السلطة السياسية التي لا تستسيغ قرار منصوري برفض تمويلها بالليرة أو الدولار “وهذا الأمر قد يشكّل ضغطاً سياسياً على منصوري يدفعه للتراجع عن قراره”. ولذلك، هناك احتمالان سيؤثّران على الاقتصاد وسعر الدولار، الأول أن يلتزم منصوري بقراره ويُحجِّم طباعة الليرة، والثاني، هو نجاح الضغط السياسي، ودفع منصوري إلى تمويل الدولة واستنزاف الليرة والدولار.
ما حقّقه الموسم السياحي الصيفي من “راحة” في السوق لناحية استقرار سعر الدولار، ومن توفير للدولارات التي ستُصرَف ضمن دائرة اقتصادية، لا يكفي للقول بأن عائدات الموسم السياحي قادرة على إنقاذ الاقتصاد. إذ يبقى الاستقرار مرهوناً بقاعدة تفيد بأنه “إذا كان المدخول كبيراً ومستمراً، يمكن معه زيادة المصروف، لكن إذا تقلَّص المدخول وانخفض، واستمر الإنفاق على حاله، فهنا تبرز المشكلة وتتفاقم”.