إنتهت «حفلة» التهويل على زيارة اللجنة القضائية الأوروبية المعنية بمتابعة التحقيق في دعاوى تبييض الأموال المرفوعة في بلدان أعضائها الأم. أيام قليلة وتبدأ اللجنة الإستماع إلى إفادات الشهود اللبنانيين، بالتعاون والتنسيق مع النيابة العامة التمييزية. وإذا كان من المبكر القفز إلى النتائج التي ستتوصل إليها اللجنة، فان تداعيات هذه الزيارة على الوضعين الإقتصادي والمالي تبقى رهن جدية المسؤولين اللبنانيين في التعاطي معها والحرص على استكمال التحقيقات حتى النهاية وعدم تمييع القضية.
كيفما قلّبنا المعطيات يظهر أن القبول بالتحقيق القضائي الأوروبي في ملفات الفساد الداخلية، يصب في خانة المصلحة العامة. فرفض التعاون في قضايا من هذا الحجم كان من الممكن أن يجر على لبنان المزيد من العزلة والعقوبات الدولية على الأفراد والمؤسسات المصرفية والمالية وصولاً إلى الدولة بأجهزتها الرسمية. ففي يد الدول المحققة (فرنسا، إلمانيا، واللوكسمبورغ)، أدوات ضغط تبدأ بقطع المصارف المراسلة في الخارج علاقتها مع نظيرتها اللبنانية، وتمر بفرض العقوبات على الشخصيات اللبنانية وتقليص المساعدات المادية ومِنَح المشاريع، ولا تنتهي بوضع لبنان على اللائحة السوداء للدول المتهمة بتبييض الأموال. عندها يتعطل الإقتصاد وتتوقف عمليات استيراد السلع والخدمات، وينعزل لبنان عن النظام المالي العالمي.
بدء المحاسبة
في المقابل، فان الذهاب في هذه الملفات إلى النهاية واتخاذ الدولة اللبنانية صفة الإدعاء في الخارج، لا يتيحان الفرصة أمام إسترداد الأموال المهربة أو المنهوبة أو المحولة إلى الخارج من دون وجه حق فحسب، إنما الأهم بدء مشوار المحاسبة وتحقيق العدالة. فاذا كان استرداد الأموال المهربة يعتبر عملية دقيقة ومعقدة، وقد «لا ينتج بالضرورة عن إثبات جرم تبييض الأموال تحقيق المنفعة الآنية وإستعادة المبالغ فوراً، إلا أن الأساس يكمن في أن التفلت من العقاب، أصبح أصعب»، يقول الخبير في السياسات العامة المحامي ربيع الشاعر. «ما يضعنا على أبواب مرحلة جديدة من المحاسبة. خصوصاً أن تغييب المحاسبة طيلة الفترات الماضية أدى إلى التفلت الذي شهدناه ونشهده على مختلف المستويات، وإلى تنظيم أكبر عملية «احتيال هرمي» Ponzi scheme على صعيد العالم، فاقت بحجمها «الهرم الإحتيالي» الذي نفذه مادوف (برنارد مادوف) بقيمة 64.8 مليار دولار».
منفعة مؤجلة
إستعادة لبنان للأموال المهربة والمختلسة في حال الشروع بقضاياها جدياً، من شأنه أن يرفد المالية العامة بمبالغ تقدّر بمليارات الدولارات على أقل تقدير. فالمبالغ المالية المدعى بها على حاكم مصرف لبنان وحده في الخارج تتجاوز بحسب منظمة «المحاسبة الآن» 800 مليون دولار. وإذا ما أضفناها إلى المبالغ المحولة منذ العام 2016، والتي حاول التعميم 154 استعادة جزء منها، فان الأموال تشكل ثروة طائلة. بيد أن هذا الأمر يتطلب دراسة كل حالة على حدة، وذلك بالنظر الى ارتباط الأموال بقوانين البلدان الموجودة فيها. «فمن المعروف على سبيل المثال أن الولايات المتحدة تحجز على هذه الأموال ولا تردها»، بحسب الشاعر. و»من الصعب رفع السرية المصرفية في المصارف السويسرية عن حسابات عملائها. هذا فضلاً عن أن سويسرا لا تعترف بالاحكام، حتى المبرمة، الصادرة عن دولة مثل لبنان. وقد يفضي ذلك إلى طلب إعادة المحاكمة على الاراضي السويسرية وتحت ظل قضائها. وعلى أساس الأحكام السويسرية يتخذ القرار بارجاع الأموال المهربة من عدمه». وفي جميع الأحوال فان المسار القانوني لاسترداد هذه الأموال طويل ومعقد. و»هذا ما برهنته التجربة في تونس وغيرها من البلدان»، يقول الشاعر. و»هو يتطلب التعامل معه بشكل استراتيجي، وبقناعة تامة من كافة الجهات المحلية والدولية بالتعاون على كشف عمليات الفساد واسترداد الاموال التي لديها».
المتابعة حثيثة
المراجعة القضائية الأوروبية المنصوص عليها صراحة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، تسمح للبنان بأوسع تعاون تبعاً للمواد 42 و43 وصولاً للمادة 50. وتحت هذا السقف يجري تعاون القضاء اللبناني مع المحققين الأوروبيين. حيث ستجري التحقيقات بوجود قاض لبناني. وليس هناك من صلاحية للجنة باتخاذ إجراءات فورية كحجز الحرية وخلافه. لأن هذا الأمر يبقى من صلاحيات القضاء اللبناني وحده. إلا أنه بمجرد إهتمام القضاء الاوروبي التابع لأكثر من دولة في هذا الملف، فهذا يعني أن «الموضوع متابع بجدية من العديد من الجهات الأجنبية»، بحسب الشاعر. «كما يعني أن القضاء اللبناني قد وُضع أمام واجبه، وسيُزود بالمعلومات التي بحوزة اللجنة الأجنبية. وبالتالي عليه واجب متابعة ملفات الفساد وتبييض الاموال، كما على هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان واجب رفع السرية المصرفية عن حسابات الاشخاص الذين يتبين تورطهم». وبحسب الشاعر فان «الدعاوى بين الداخل والخارج ليست متلازمة. وحتى لو صدر قرار قضائي داخلي بتبرئة أي مدعى عليه، فهذا لا يلزم القضاء الأجنبي. لكن يبقى هذا الجرم خاضعاً للقوانين التي تطبق في الخارج.
إعادة الثقة للإقتصاد
أهمية ما يجري على صعيد التعاون القضائي الأوروبي اللبناني يتمثل في خلقه فرصة جدية للحد من التهرب من العقاب في قضايا الاختلاس والتهرب الضريبي وتبييض الأموال. و»لو أن التحقيقات قد لا تطال كل الشخصيات التي نعتبرها أساس المشكلة، فان عملية البدء بالملاحقات القضائية كفيلة باعادة جزء من الثقة المفقودة في دولة القانون والمؤسسات»، برأي الشاعر. و»مع تحقيق العدالة تظهر التداعيات الإيجابية على الإقتصاد، الذي أول ما يتطلبه هو العدالة لإعادة الثقة وجذب المستثمرين، وتعظيم الإستثمارات، وتأمين التعامل على قواعد الوضوح والشفافية مع النظام المصرفي». فالإطمئنان إلى وجود دولة ترعى وتحاسب من شأنه تسريع التعافي، والانطلاق بزخم. لا سيما في اقتصاد صغير وغني بالقدرات والإمكانات.
يؤمل من المبادرة القضائية الاوروبية أن تكون مدخلاً لتأمين استقلالية القضاء، حتى قبل تحقيق الاستقلالية الكاملة في النصوص. فالمهم تحقيق الاستقلالية عن السلطة السياسية. وعليه أن يأخذ الإجراءات المناسبة لملاقاة القضاء الأجنبي، وعدم الإكتفاء بفتح ملفات الملاحقين دولياً، إنما التوسع بالتحقيقات لتطال كل المتسببين الأساسيين في عمليات الفساد، الذين لم يخضعوا بعد لغاية الآن إلى أي ملاحقة في الداخل أو الخارج.