ثمة نموذج واضح لما سيكون عليه لبنان بعد علاقته مع صندوق النقد الدولي: مصر. صحيح أن شكل الاقتصاد والنموذج الاقتصادي هناك مختلف عن لبنان، لجهة عدد السكان والتنوّع والموارد الطبيعية مثل الغاز، إلا أن ذلك لم يعفِ مصر من الوقوع مجدداً في أزمة لأنها باتت مدمنة على التمويل الخارجي، مثلما كان لبنان، وربما مثلما سيكون لاحقاً.
ففي عام 2016 شهد الاقتصاد المصري أزمة كبيرة انتهت بتحرير سعر صرف العملة الثابت تجاه الدولار، وبالانخراط في برامج الصندوق التمويلية من دون إجراء تعديلات جوهرية على نموذجه الاقتصادي، ولا سيما لجهة علاقاته مع الخارج. ورغم تقيّد مصر بالإصلاحات التي فرضها الصندوق على بناها التشريعية والمالية، إلا أن استمرار اعتمادها على التدفقات من الخارج لتمويل استهلاكها المحلّي لم يصمد تجاه الأزمات الآتية من الخارج، وها هو يقع مجدداً فريسة الانهيار. وهو أمر بات يبدو محتوماً، ولا تنكره السلطات في مصر، بل تحاول تفادي شراسته عبر إجراءات مختلفة؛ من أبرزها تقييد عمليات الاستيراد من الخارج وحصرها بأمور تحددها الدولة طبقاً لحاجات المجتمع. ومن النتائج السارية لغاية الآن، انهيار سعر العملة المصرية تجاه الدولار، ما يعني أن التضخّم في الأسعار سيكون مصدره محلياً، بالإضافة إلى التضخّم الخارجي في أسعار السلع المستوردة، ولا سيما المواد الأساسية مثل القمح والمشتقات النفطية وكل السلع المرتبطة بصناعة التكنولوجيا. وكل ذلك يأتي رغم أن واردات مصر بالعملة الأجنبية ازدادت بفعل فتح الحدود أمام السياحة بعد تعطّل أثناء جائحة كورونا، وازدياد إيرادات قناة السويس، وارتفاع أسعار الغاز… لكن الأزمة بالفعل بدأت هناك. فالدَّين العام على مصر ما زال على مسار خطير، إذ إن أكثر من ثلثه هو بالعملة الأجنبية أو ما يوازي 150 مليار دولار، علماً بأن مدفوعات خدمة الدين ستبلغ 34 مليار دولار في نهاية السنة الجارية مقابل احتياطات بالعملة الأجنبية تبلغ 35.2 مليار دولار. وبحسب أرقام مشروع الموازنة العامة عن العام المالي (2022 – 2023)، فإن مجمل قيمة الفوائد التي ستدفع للديون المحلية والأجنبية يقدّر بنحو 37 مليار دولار بزيادة 19٪ عن السنة السابقة.
لكن من أبرز المؤشرات التي تكشف عن حجم الأزمة في مصر، عجز الحساب الجاري الذي تراكم فيه منذ 2016 لغاية اليوم نحو 79 مليار دولار، أي أكثر من ضعفَي الاحتياطات المتوافرة حالياً. الحساب الجاري يكون عاجزاً عندما يسجّل فيه خروج أموال بالعملة الأجنبية من البلد أكثر مما دخل إليه. وبنتيجة كل هذه الخسائر التي يتكبّدها الاقتصاد المصري، فإنّ أكثر من ثلث المقيمين في مصر يعدّون فقراء أو ما يعادل 30 مليون شخص. كذلك فإن معدلات الادخار في مصر انخفضت بشكل واسع بالتوازي مع ارتفاع معدّلات الدَّين إلى أكثر من 94٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وفي مقابل ثبات الأجور، كان التضخّم يسير بوتيرة ثابتة طوال السنوات الخمس الماضية، ما ترك أثراً واسعاً على أصحاب الدخل المتوسط والمحدود.
ثمة الكثير من المؤشرات التي يمكن تعدادها عن حالة مصر بعد الانخراط مع صندوق النقد الدولي بكل ما يطلبه من إجراءات وإصلاحات… يومها طلب الرئيس المصري من المصريين التحمّل، تماماً كما قال رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي: بدنا نتحمّل بعض. عملياً، يجب أن نتحمّل حتى تمرّ الأزمة في لبنان من دون أي تمسّ ثروات فئة الـ 1٪، أو من دون أن يلحقها ضرر جسيم كالذي لحق العاملين بأجر في لبنان. ولو قرّر لبنان الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ضمن سلّة من الإجراءات وما يسمّونه إصلاحات يندرج ضمنها تحرير سعر الصرف، إعادة هيكلة المصارف، تقييد حركة رؤوس الأموال، وتعديلات على السرية المصرفية… كل ذلك يبقى بلا طائل إذا كان لبنان يسير نحو أهداف رسمها صندوق النقد بوصفة موحّدة وشاملة يقترحها لكل الدول هي وصفة المزيد من الفقر. فإذا لم يتم تحديد الأهداف التي سيسير عليها الاقتصاد في لبنان على المدى الطويل، فإن كل الإجراءات ستعيد إنتاج الأزمة، سواء بحدّة أعلى أو أقل. إذ إن استمرار الاعتماد على التدفقات الخارجية لتمويل الاستهلاك المحلي، بل تعزيز قدرات الامتصاص الداخلية (زيادة التصنيع والتصدير وخلق أدوات تكبح اللامساواة) لن يكون لبنان قادراً على النهوض مجدداً، مع غاز أو بدونه. انظروا إلى مصر التي تملك الغاز ولديها مغتربون وصادرات وقدرات زراعية وتصنيعية وسياحة أكبر بكثير من لبنان، فها هي تقع مجدداً. مشكلة لبنان أنه يسعى اليوم الى استبدال حكّام ينهبون البلد بمنظومة عالمية للهيمنة.