انقسمت الأضواء في مصرف لبنان قبل ظهر أمس الإثنين بين باحته التي وقف فيها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، للمرة الأخيرة مودّعاً موظّفيه بكلمات عاطفية قائلاً لهم «قلبي معكم» بعد أن تولّى الحاكمية لمدّة 30 عاماً، وبين الطابق السابع حيث عقد نائبه الأول وسيم منصوري مؤتمراً صحافياً في اليوم الأخير لولاية سلامة، أعلن فيه التنصّل من سياسات الحاكم خلال الأزمة والى جانبه زملاؤه نواب الحاكم الثلاثة الذين تولّوا مهامهم في العام 2020، سارداً وقائع وتواريخ تؤكد أنهم قاموا بما يمليه عليهم واجبهم المهني ترجمة لمقولة «اللهم أشهد أني بلغت» لكن «لا رأي لمن لا يطاع».
سلامة… والسيلفي
الطرفان كانا مربكين، ومدركين أن مجريات يوم أمس لم تكن على قدر الطموح. فسلامة حاول حفظ ماء وجهه وظهر بمظهر الأب الحنون لموظّفيه وأتباعه، من خلال التقاط الصور والثناء على المجاملات التي أطلقها البعض عليه والزّفة التي أعدّوها له، بينما سلوكه خلال العقود الثلاثة التي مضت دلّ على أنه كان يرغب في الخروج من الحاكمية «خروج الفاتحين» والى كرسي حكم آخر، بعد أن صنّف يوماً ما أفضل حاكم مركزي في العالم، لكنّ الدمار الذي ألحقه بالنظام المصرفي والمالي اللبناني، (بالتعاون والتضامن مع المنظومة السياسية) دفعه لأن يرضى يوم أمس أن تكون آخر لحظاته الى جانب موظفة أرادت التقاط «السيلفي» معه وعلى رصيف المصرف المركزي وليس على منصّات التكريم العالمية، وأن يكون الاحتفال الأخير من دون حضور وسائل الإعلام التي لم تكن على علم بهذه «الزفة المتواضعة» رغم تواجدها في حرم المصرف.
أما منصوري الذي استغرق مؤتمره الصحافي 30 دقيقة، غادر القاعة «كغزال رشيق» بعد انتهائه من تلاوة بيانه هرباً من الردّ على أسئلة الصحافيين، وتبرّأ في كلمة ألقاها من سياسات سلامة خلال الأزمة بعد تسلّم مهامه. ثم تلا مجموعة إصلاحات على القوى السياسية في الحكومة ومجلس النواب تنفيذها خلال الـ6 أشهر المقبلة، لوضع مصرف لبنان وخلفه الوضع المالي والنقدي على سكّة الحل. وآثر زملاؤه النواب الصمت، وحده النائب سليم شاهين كان يهزّ رأسه بين الحين والآخر كعلامة رضى عمّا يقوله منصوري.
بيان منصوري لم يتضمّن أي إشارات على ضمانات حقيقية تطمئن اللبنانيين ومن بينهم المودعون، إلى أن الحكومة ومجلس النواب سينفّذان هذه الإصلاحات أم أنها ستبقى حبراً على ورق، على غرار الإصلاحات التي طلبها المجتمع الدولي أو صندوق النقد الدولي. كما أنّ منصوري وزملاءه النوّاب الذين يطلبون من المنظومة الحاكمة تغطية تشريعية ليستمرّوا بسياسة تمويل الدولة من الاحتياطي ولكن بصورة مؤقتة ريثما تتمّ الإصلاحات، تناسوا بأن هذا المؤقت يمكن أن يدوم وحتى الإصلاحات قد تتعطّل وتتأجل كما دائماً. لكن أكثر ما قد يزيد من يأس اللبنانيين والمودعين في كلام منصوري ما قاله في النهاية إنهم «يمدّون أيديهم لكلّ السلطات في البلد في محاولة لإعطاء حلّ»، وهذا يعني أن عليهم الانتظار طويلاً لأن هذه السلطة تماطل منذ أربع سنوات وتمنع وضع البلاد على سكة الحلّ لأن ذلك لا يتناسب مع مصالحها. كما أن الإشارات التي تضمّنها البيان على ضرورة قيام السياسة المالية بدورها كاملاً بمعزل عن السياسة النقدية، وضرورة قيام وزارة المالية بزيادة الجباية ليتوقّف طلب الدولة الاقتراض من مصرف لبنان… كلها إشارات تبدو وكأنها تؤكد أن المشكلة عند وزير المالية يوسف خليل العاجز عن إعداد موازنة غير عاجزة.
رفض وتواريخ وأرقام
في الوقائع، بدأ المؤتمر الصحافي عند الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق، وسط حضور كثيف لوسائل الإعلام، وأكد منصوري خلاله أن «خيارنا كان ثابتاً وواضحاً وهو أنه مهما كانت الأسباب التي تدفع الحكومة لطلب أموال من المصرف المركزي، فهي أسباب غير مبررة على الإطلاق ويجب أن يتوقف هذا الإستنزاف نهائياً».
أضاف: «اقتنعنا بأنّه لا يُمكن تغيير السياسات الموجودة ونؤكد استقلالية مصرف لبنان، وأرسلنا كتباً إلى وزارة المالية وأصدرنا قراراً عن المركزي يقضي بأنه لا يجوز المسّ بالتوظيفات الإلزاميّة تحت أيّ مسمى أو ذريعة»، معدّداً المرات التي تمّ فيها إرسال الكتب الى الجهات المعنية، «فكان الكتاب الأول في 10 آب 2020، وأوضحوا بموجبه أن سياسة الدعم التي تصرف 800 مليون دولار شهرياً من احتياطيات المركزي لا يمكن أن تكون سياسة صحيحة ومستدامة، والكتاب الثاني في 1/9/2021 الى وزير المالية، كما أصدر المجلس المركزي قراراً يقضي بأنه لا يجوز المساس بالتوظيفات، وآخر الكتب كان في 15 شباط 2022 الى مجلس النواب».
أوّل الإنجازات وقف سياسة الدعم!
لفت منصوري الى أنه «نتيجة لذلك أقنعنا الحكومة أنّه يجب وقف سياسة الدّعم، ونتيجة لذلك أيضاً بدأ الاقتصاد يتعافى نسبيّاً، ولكن بقيت حاجة الحكومة للدولار من مصرف لبنان مستمرّة، وسيستمرّ ذلك لأن الحلّ لوقف اعتماد الدولة على المركزي يكمن في تحسين المالية العامة»، مشدداً على أن «المسألة ليست نقدية بل في السياسة العامة المالية للحكومة، ولذلك يقتضي أن يتم بوضوح اتخاذ قرار لتفعيل الإدارة العامة أي تحسين الجباية، والحكومة بدأت بخطواتها في هذا الإطار، وإذا أكملت فسيؤدي ذلك الى توازن مالي مقبول».
ورأى أن «الأمر الأساسي هو ما سيحصل في العلاقة بين الحكومة والمركزي من الآن وصاعداً، لأننا أمام مفترق طرق، فالاستمرار في نهج السياسات السابقة في ظلّ إمكانات «المركزي» المحدودة يعني أنّه لا بدّ من الانتقال إلى وقف تمويل الدولة بالكامل، ولن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني لذلك».
وقف التمويل بالتدريج
أشار منصوري الى أنّ «وقف التمويل للحكومة لا يمكن أن يتمّ بشكلٍ مفاجئ، ويجب أن يحصل تعاون قانوني متكامل بين الحكومة ومجلس النواب و»المركزي» ضمن خطّة متكاملة تكفل أن تُعاد الأموال»، مردفاً: «ننظر إلى فترةٍ انتقاليّة قصيرة تسمح بتمويل الدولة بموجب قانون»، معدّداً القوانين الإصلاحية التي يجب إقرارها خلال الأشهر الستة المقبلة، وأولها موازنات 2023 و2024 وقوانين الـ»كابيتال كونترول» وإعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن المالي».
وشدّد على أنه «لا يُمكن للبلد الاستمرار من دون إقرار القوانين الإصلاحيّة، وهذه القوانين ينتظرها المودع منذ سنوات لمعرفة متى يستعيد أمواله ويجب تقديم مصلحة المواطن والمودع على أيّ شيء آخر، وسنكون بتصرّف مجلس النواب لتزويده بأيّ معلومات أو أرقام للانتهاء من درس القوانين»، لافتاً الى أنّ «وقف تمويل الحكومة لم يعد خياراً، والتدرّج باتخاذ القرار يحتاج إلى قانون وسيسمح قانون إقراض الحكومة في حال طلبها ذلك لمدة محدودة وأخيرة على أن يكون مشروطاً بردّ الأموال وأن تتأمّن إمكانية ردّها، بدفع رواتب القطاع العام، والتشريع المطلوب يسمح بتنشيط الإدارة وتأمين الأموال للدواء أيضاً».
تحرير الصرف ممكن
رأى وسيم منصوري أن «تحرير سعر الصرف وتوحيده يجب أن يتمّ بالتدرج حفاظاً على الاستقرار. وهذا القرار يُتّخذ بالتوافق مع الحكومة، وتحرير سعر الصرف مؤات حالياً لأن الكتلة النقدية انخفضت من 80 تريليون ليرة في حزيران الماضي الى 60 تريليون حالياً، أي بحدود 25 بالمئة، ما يعني أنه من المنطقي أن نشهد استقراراً في سعر الصرف بالإضافة الى حركة المغتربين وتمكّن الحكومة من جباية 25 تريليون ليرة شهرياً، وهذا يعني أن تحرير سعر الصرف لن يكون له تأثير سلبي على الاستقرار النقدي الحالي»، لافتاً الى أنه «تم التواصل مع القوى الأمنية والقضاء للقضاء على التلاعب بسعر الصّرف، وما يُعزّز الاستقرار النقدي هو القانون الذي ستطلب الحكومة إقراره».
وختم بالقول: «نمدّ أيدينا لكلّ السلطات في البلد في محاولة لإعطاء حلّ، ونتعهّد الشفافية الكاملة في عملنا ومصرّون على رفع السرية المصرفيّة عن حساباتنا، وأتمنّى أن نتوافق على إخراج كلّ ما يتعلّق بالسياسة النقديّة من التجاذبات السياسيّة التي لا أدخل فيها من أجل إنصاف اللبناني والمودع».