نوّاب الحاكم… عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان!

إنحرف النقاش الصاخب منذ أكثر من 10 أيام من التصويب غير المنقطع على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومسؤوليته التاريخية عن الإنهيار المالي والمصرفي والقضايا المرفوعة ضده مع مذكرات جلب دولية، الى نوابه (المساكين) بعدما أصدروا بياناً متسرعاً في 6 تموز الجاري نضح تهديداً بالإستقالة اذا لم تنفذ بعض شروطهم الخاصة بكيفية ملء مكان الحاكم بعد خروج سلامة بنهاية الشهر الجاري، وتسريع الحكومة والبرلمان للاصلاحات المالية والاقتصادية الضرورية… على قاعدة «أريد زوجة جميلة وثرية ومتعلمة وبنت أصول وسوبروومن، وإلا فلا أتزوج»!

وحده سلامة «يشيل الزير من البير»؟

طلبوا في بيانهم «ضرورة تعيين حاكم جديد وإلا اضطروا الى اتخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة». فجلب ذلك البيان التهديدي لهم اتهامات من كل حدب وصوب. بعضها مبرر، والبعض الآخر ناقش ما ليس هم فيه أو عليه، بينما كان سلامة ومريدوه يتفرجون بأسارير منفرجة حيناً وبسمات صفراء أحياناً كما لو ان رياض الوحيد «الذي يشيل الزير من البير»، وغيره ضعيف متخبط هارب من المسؤولية. بيد انه ليس باستطاعة هؤلاء المصطادين في الماء العكر محو ذاكرة جماعية بدأت تتشكل بوضوح لتحمل سلامة والقطاع المصرفي ومن خلفهما منظمومة الفساد والبلطجة والسلاح مسؤولية هدر (إن لم نقل «سرقة») 100 مليار دولار من ودائع الناس وجنى أعمارهم، فضلاً عن التسبب بإفقار شرائح واسعة من اللبنانيين ووضع الاقتصاد في حضيض مخيف. أما القول إن الدولة صرفت تلك الأموال فبات واضحاً انه خدعة تاريخية يريد المتآمرون المسؤولون عن الازمة-الكارثة اقناع المودعين بها حتى يفلتوا هم من المحاسبة والعقاب، وتحميل جيل او جبلين خسائر معظمها عبارة الآن عن ثروات متراكمة في الداخل والخارج بحوزة قلة قليلة ليست الا جملة أفراد المنظمومة السياسية المصرفية الفاسدة.

قبلتَ المنصب وأنت تعرف تحدّياته منذ 2020

بيان نواب الحاكم تناول في متنه أيضاً «العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية والشواغر في ادارات ومؤسسات الدولة وانعكاس ذلك على عمل السلطات التشريعية والتنفيذية، وعدم قبولهم وصول مفهوم تصريف الأعمال إلى السلطة النقدية، وعدم توافق القوى السياسية في مقاربتها لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، وعدم تجانس السياستين المالية والنقدية، وغياب الخطة الشاملة والواضحة لإعادة التوازن المالي والمصرفي…». معظم تلك العناوين غير جديد، ويعلمه نواب الحاكم علم اليقين منذ اليوم الأول لتعيينهم في 2020. قبلوا المناصب في ذروة اندلاع الأزمة وتنطحوا للمسؤولية بملء ارادتهم وارادة من عينهم بالتحاصص. فلا مناص الآن بعدما سبق السيف العذل.

إعترضوا في الظلّ… في العلن لا شيء يذكر

ربّ قائل منهم أو بينهم انه كان اعترض على تعاميم وسياسات نقدية ومصرفية قادها سلامة متسلحاً بتفويض من المنظومة التي يرعاها وترعاه يحميها وتحميه وبأغلبية اصوات في المجلس المركزي. لكن اذا اردنا تذكير نواب الحاكم بالموبقات والجرائم المالية التي ارتكبت منذ تعيينهم فهي كارثية بكل ما للكلمة من معنى. وبدوا هم كأنهم صم بكم عمي لا يفقهون شيئاً امام الرأي العام على الاقل الذي لم يعرف اسماءهم الا قبل اسابيع قليلة مع اقتراب خروج سلامة من البنك المركزي. فهم مسؤولون كل حسب موقعه وموقفه وفقاً لمحاضر المجلس المركزي التي يجب نشرها، والا فلنطلب تدقيقاً جنائياً فيها هي الأخرى مع كشف كامل للسرية المصرفية عن حسابات الحاكم ونوابه وآخرين في مديريات مصرف لبنان.

لا كابيتال كونترول والودائع مقدسة!

«لو كنت أعلم»… مقولة فارغة في ما نحن بصدده. فالجهة التي عينت النائب الأول وسيم منصوري، على سبيل المثال لا الحصر، ونسب إليها رفض الكابيتال كونترول بداية الأزمة واطلاق شعار الودائع المقدسة، لعلّها تعلم او لعلّ منصوري يشرح لها كيف تم تذويب أكثر من 80 مليار دولار من الودائع بالليرة والدولار بسبب منع الكابيتال كونترول وتفويض سلامة ادارة الجمل بما حمل بعد اسقاط خطة لازار. فاذا كان منصوري يعي ذلك لا يمكنه اليوم التهديد بالاستقالة والتنصل. ركب الباص من أول الرحلة وعليه اكمال المشوار لنعرف ماذا باستطاعته ان يفعل عندما اصبح هو وزملاؤه في نيابة الحاكمية عراةً امام الحقيقة، وأمام ضمائرهم ومهنيتهم واستقلاليتهم وشجاعتهم… «هذا هو الميدان يا حديدان، أرنا ماذا باستطاعتك أن تفعل، ولا تقل لي الهريبة تلتين المراجل»!

تطبيق قانون النقد والتسليف بلا زيادة أو نقصان

ما ورد في بيان نواب الحاكم عبارة عن عناوين اراد واضعوها القول من ورائها ان مهمتهم في هذه الحالة مستحيلة او شبه مستحيلة، ويريدون بين ليلة وضحاها من السياسيين في الحكومة والبرلمان البدء بتنفيذ الاصلاحات مثل اقرار الكابيتال كونترول واعادة هيكلة القطاع المصرفي واعادة التوازن الى النظام المالي (توزيع الخسائر ومصير الودائع)… والا يتخذون ما يرونه مناسباً. لقد ارتكبوا خطأ جسيماً في ما ذهبوا اليه من تهويلات، كان الأجدى قبول التحدي، والتصدي للمسؤولية وفقاً لما يمليه عليهم قانون النقد والتسليف من دون زيادة ولا نقصان، بدءاً من تولي منصوري مهمات الحاكم واستمرار عمل الآخرين في المجلس المركزي بشكل حثيث وثوري يصحح المسار اذا كانوا فعلاً معترضين على ما قام به سلامة، ولا يخافون في ذلك لومة لائم إذا كانون صادقين.

إستخدام سياسيّ خبيث لبيان نواب الحاكم

إن تهديدات نواب الحاكم حمّالة أوجه. وربما تضع ماء في طواحين المنظومة. فإذا استقالوا سيطلب منهم تسيير الأعمال وفق الستاتيكو القائم، وبالتالي الاستمرار في مخلفات ومخالفات المنصة والتعاميم وغيرها من السياسات والإجراءات التي كرسها سلامة زوراً وبهتاناً. من جهة أخرى، ربما هناك من أراد من ذلك البيان حجةً لعل وعسى يمكنه في الأيام القليلة الباقية استخدامها في الضغط، لتعجيل تعيين حاكم اصيل على هوى المنظومة السياسية والمصرفية، او العمل بالقوة القاهرة القاضية بطرح التمديد لرياض سلامة لفترة معينة. وما تذبذب سعر صرف الدولار خلال عطلة نهاية الاسبوع إلا أحدى الادوات الممكن استخدامها للتخويف وفرض التمديد لسلامة على انه الضامن لاستقرار سعر الصرف على منصة صيرفة، وان تهديدات نواب الحاكم تثير المخاوف والشكوك بما يسمح للمضاربين بالعودة الى لعبتهم ضد الليرة. وما ترويج ذلك الادعاء الخبيث بعسير على خبثاء المنظومة المتسلطة.

مناورة طائفيّة للقفز فوق القانون كالعادة

أما مسألة أن رئيس مجلس النواب نبيه بري غير متحمس لتولي منصوري المهمة لأنه شيعي يضاف الى شيعيين آخرين في القطاع المالي هما وزير المالية يوسف خليل والمدعي العام المالي علي ابراهيم، فهذه مناروة طائفية على عادة هذا النوع من المناورات المستخدمة للقفز فوق القانون فقط. فعندما قاتل الرئيس بري لتعيين هذا وذاك كان لا يعبأ بما يتم التخويف منه اليوم. أما وقت وصلت المسؤولية المباشرة اليه فعليه تحملها كما تحمل وزر تصرفات يوسف خليل والقاضي ابراهيم ووسيم منصوري أيضاً… ولعل منصوري يبيض الوجه هذه المرة، من يدري؟!

ضرورة إقناع الناس بمنصّة بديلة

في هذه الحمأة، هناك أمل ما وإن كان نظرياً حتى الساعة، لكن يمكن البناء عليه وتضافر الجهود حوله لانجاحه كما يؤكد النائب الثالث الدكتور سليم شاهين. شاهين يرفض الاستمرار في المنصة القائمة ويتفاوض مع «بلومبيرغ» و»رويترز» لاختيار منصة جديدة اكثر كفاءة وشفافية. لاقناع الآخرين بسوء منصة صيرفة القائمة، عليه اولاً (اي شاهين) وعلى زملائه الآخرين ان يفضحوا ذلك السوء لاقناع الناس بمشروعهم الاصلاحي البديل. عليهم ان يقولوا لنا وبالفم الملآن ما اذا كانت صيرفة تعتمد على التوظيفات الالزامية أو ما يسمى بالإحتياطي وهو بالنتيجة ما تبقى من اموال المودعين. عليهم ان يؤكدوا لنا ان بين المنتفعين من صيرفة مضاربين محسوبين على قوى امر واقع وتجار ومصرفيين محميين ومحظيين. عليهم ان يشرحوا لنا مساوئ الاستمرار بتلك المنصة ومخاطر تبييض الاموال فيها ليكون الناس على بينة ويدعمونهم وهم يعضون على جرحهم، اذا تذبذب سعر الصرف حتى تنتظم الامور تباعاً وتدريجياً بمنصة شفافة تعبر فعلاً عن العرض والطلب الحقيقيين.

ماذا لدى سليم شاهين؟ «بلومبيرغ» أم «رويترز»؟

يقول سليم شاهين: «من خلال إجبار المتداولين والتجار على البيع بالليرة في الاقتصاد، والطلب من المستوردين شراء الدولار للاستيراد على المنصة الإلكترونية الجديدة، وتنظيم وصول البنوك والمؤسسات المالية المؤهلة إلى هذه المنصة الإلكترونية كصناع سوق… بذلك سنكون قادرين على تأمين عمق وحجم تداول أكبر، والذي من المرجح أن يدعم تسعيراً أكثر كفاءة في سوق سعر الصرف المعوم الحر. وسيؤدي هذا أيضاً إلى إعادة الليرة الى موقعها الطبيعي كأداة دفع في الاقتصاد اللبناني». مؤكداً ان بين الايجابيات ايضاً السماح بتحسين مراقبة دفاتر كبار المستوردين، مما يساعد على تحسين إيرادات الحكومة الضريبية. ويضيف: «إن إبقاء الصيرفة في آلياتها الحالية سيؤدي إلى مزيد من الخسائر بالليرة وكذلك بالدولار عندما يفشل البنك المركزي في شراء المبالغ المطلوبة بالدولار في السوق. لذا فالحاجة ماسة للانتقال إلى سوق سعر صرف منظم، بما يعكس التوازن الحقيقي بين العرض والطلب».

ولا يستبعد أن تؤدي آلية تداول أكثر شفافية إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الليرة إذا فشلت الأحزاب السياسية في تحمل المسؤولية وتنفيذ الإصلاحات اللازمة. لكن الخسائر الإضافية بالليرة والدولار على المدى القصير للحفاظ على الاستقرار المكلف لليرة على المنصة القائمة ستؤدي في النهاية إلى انهيار طويل الأمد ومزيد من إفقار السكان اللبنانيين لعقود عديدة والغاء كامل للطبقة الوسطى.

ويذكر شاهين انه قدم خطته منذ اوائل 2023 الى اعضاء في الحكومة ومعنيين ومسؤولين عن الاصلاح لكنه لم يحصل على ملاحظات ذات مغزى.

منصّة سلامة للتربّح غير المشروع

إذاً، كل المسألة تتعلق بمنصة صيرفة والتي لا بد من التذكير بانها غير شفافة، إذ وجد تقرير المرصد الاقتصادي التابع للبنك الدولي أن منصة صيرفة تمثل أداة نقدية غير مؤاتية أدت إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في سعر صرف الليرة على حساب الاحتياطي والوضع المالي لمصرف لبنان، لا سيما في غياب سعر صرف وإطار نقدي جديدين. وتحولت هذه المنصة أيضاً إلى آلية لتحقيق أرباح من عمليات المراجحة بلغت حوالى 2.5 مليار دولار منذ إنشائها، فالحصول على الدولار المعروض على المنصة يحقق للبعض أرباحاً كبيرة وخالية من المخاطر نظراً لوجود هامش بين سعر العملة على المنصة وسعر العملة في السوق الموازية.

تحويل سعر الصرف الى ميزان حرارة

خلاصة القول إن على نواب الحاكم التحلي بالشجاعة وايقاف منصة صيرفة الحالية، واطلاق أخرى بديلة أكثر شفافية واستدامة، تعبر عن السعر الحقيقي لليرة تبعاً للواقع الاقتصادي والمالي والنقدي كما هو، وتشكل ميزان حرارة عند كل تطور سلبي او ايجابي على صعيد النمو وميزان المدفوعات والاصلاحات المطلوبة، وفقاً للاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يطالب بتوحيد اسعار الصرف في مرحلة اولى، واعتماد سعر مرن لاحقاً يمكن لمصرف لبنان ان يتدخل فيه بحدود وشروط اذا توفر لديه احتياطي صاف… خلاف ذلك، تُترك الليرة الى مصيرها لعلها تنهار وتصل الى قاعات سحيقة مرعبة لعل اللبنانيين ينتفضون بلا هوادة هذه المرة على ساستهم مصاصي دمائهم!

مصدرنداء الوطن - منير يونس
المادة السابقةالبديل عن صندوق النقد… هو الدولة الفاشلة
المقالة القادمةهل صندوق النقد مسؤول أيضاً عن إنهيار لبنان؟