في 17 تشرين الأول، نشأت حركة احتجاجيّة شُنّت ضدّ السلطة الحاكمة الفاسدة في لبنان. وكان من أبرز مشجّعي هذه الثورة الشباب الذين كانوا يبحثون عن فسحة أمل تبقيهم في بلادهم، حيث زرعوا بعض الأمل في نفوسهم في تحقيق تغيير واقعي وملموس. ولكن مرحلة ما بعد الثورة ليست كما قبلها، إذ انزلق لبنان في الهاوية الإقتصادية لتبدأ مرحلة الإنهيار. فهل لا يزالون حتى اليوم يبحثون عن فسحة الأمل؟
أسباب عدة تدفع جيل الشباب الى الهروب من الوضع المأزوم في لبنان والهجرة الى بلاد أخرى تحترم حقوقه وحرياته وتصون كرامته. فالشباب في لبنان لا يغادرون بلدهم أو يتطلعون إلى الهجرة بكل بساطة، بل هم يجبرون على ذلك، فهم يغادرون وفي قلوبهم غصّة، تاركين عائلاتهم وأصدقاءهم لتأمين مستقبلهم في بلاد تقدّر مهاراتهم وشهاداتهم. إنّها هجرة العقول وأصحاب الإختصاص والكفاءات، فبدلاً من الاستفادة منها في لبنان والحفاظ عليها، تُترك هذه العقول للدول الأخرى التي تركّز على تقديم أفضل التسهيلات لكسبها والاستفادة منها. فكيف إذا كان لبنان غارقاً بالمشاكل الإقتصادية والاجتماعية والمعيشية والسياسية والأمنية؟
الرغبة في الهجرة بالأرقام
وجاءت النتائج في التقرير الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية على الشكل التالي: “عند سؤال المقيمين في لبنان بعمر 15 سنة وما فوق عن الرغبة في الهجرة، أبدى أكثر من نصفهم وتحديداً نسبة 52 في المئة رغبته في الهجرة من لبنان. أما حسب الفئات العمرية فكانت الرغبة في الهجرة أكثر لدى الفئات الشابة بنسبة 69 في المئة ممّن هم بعمر 15-24 سنة و66 في المئة ممّن هم بعمر 25-44 سنة، مقابل 10 في المئة فقط لدى المسنّين بعمر 65 سنة وأكثر. وعند السؤال عمّا إذا كانوا قد باشروا بمعاملات الهجرة، تبيّن أن نسبة 7 في المئة من الأفراد المقيمين في لبنان بعمر 15 سنة وما فوق والذين أبدوا الرغبة في الهجرة باشروا فعلياً بمعاملات الهجرة، وصرّحت أكثرية هؤلاء أي نسبة 5.88 في المئة أن سبب الهجرة هو الوضع الإقتصادي الحالي في لبنان”.
الأسباب عديدة
وبحسب الخبير الإقتصادي جهاد الحكيّم: “إن رغبة الشباب في الهجرة أصبحت اليوم متنوعة ولا تقتصر فقط على تراجع المعيشة والقدرة الشرائية في لبنان، بل لعدة عوامل أخرى ومنها:
-غياب تعديل الرواتب والأجور، الأمر الذي دفع العديد من العمال الى حالة من الإحباط.
– انخفاض فرص العمل في عدد كبير من القطاعات كالقطاع المصرفي والقطاع العام.
• غياب البنى التحتية اللازمة للقيام ببعض المهن، كاقتصاد المعرفة الذي يتطلّب ضرورة وجود إنترنت بجودة عالية إضافة إلى توفير الكهرباء بشكل منتظم.
• تراجع جودة القطاع الاستشفائي والقطاع التعليمي بعد هجرة عدد كبير من الأطباء والأساتذة، الأمر الذي دفع عدداً كبيراً من المواطنين الى التفكير بالهجرة. ويشير الحكيم الى وجود ظاهرة جديدة للهجرة وهي: هجرة الطلاب فور انتهاء الشهادة الثانوية وذلك للإلتحاق بالتعليم الجامعي في الخارج.
• غياب البيئة السليمة للإستثمار في لبنان وغياب التمويل والقروض من قبل المصارف، ما يدفع عدداً كبيراً من اللبنانيين الى تنفيذ مشاريعهم في الجوار على سبيل المثال: دبي وقبرص.
• إنسداد الأفق وفقدان الأمل بإيجاد أي حلول أو القيام بأي إصلاحات تنقذ لبنان من هذه الأزمة.
• المماطلة في الحصول على جوازات السفر ما يدفع الشعب اللبناني الى اليأس والتفكير بالهجرة فور الحصول عليها”.
ويتساءل الحكيّم “عن الهدف من هذه المماطلة للحصول على جوازات السفر، مع العلم أنه ما يُصرف على “صيرفة” في أسبوع واحد كفيل بأن يزوّد الشعب اللبناني بجوازات سفر لعدة سنوات”.
الهجرة… الحلّ الوحيد للعيش بكرامة
وأجرى المركز اللبناني للدراسات دراسة استقصائية في نيسان 2022 شملت 500 شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 21 و29 عاماً في دائرة بيروت الأولى ودائرة بيروت الثانية. وبيّنت هذه الدراسة: “أنّ إجابات الشباب في دائرة بيروت الأولى ودائرة بيروت الثانية أتت متشابهة بشكل عام، وأنّ هناك اختلافاً لافتاً في ترتيبهم للمشاكل الأساسية التي تواجه لبنان. فالمشاكل الثلاث الأولى بحسب الشباب في دائرة بيروت الأولى تمثلت في الإنهيار الاقتصادي، والتحديات المرتبطة بالسيادة، وغياب المساءلة. واختلف هذا الترتيب بعض الشيء في دائرة بيروت الثانية، حيث اعتبر المستجوبون أن المشاكل الثلاث الأولى التي تواجه البلد هي الانهيار الاقتصادي، والخدمات السيئة، وغياب المساءلة. ويتمثل النمط الثاني اللافت في تضاؤل ثقة الشباب في الحكومة اللبنانية وفي النظام السياسي والاقتصادي لبلدهم. فلدى سؤالهم عن رأيهم في كيفية تعامل الحكومة مع اثنتين من أخطر الأزمات في لبنان – أي الأزمة الاقتصادية المستمرة وكيفية التعامل مع انفجار مرفأ بيروت – عبّر معظم المستجوبين عن مستويات عالية من عدم الرضى.
وينسحب غياب الثقة الواسع النطاق على أي حكومة جديدة أيضاً، إذ عبّرت غالبية المستجوبين عن عدم ثقتها بحكومة جديدة بنسبة 55 في المئة ، في حين أشارت أقلّية ضئيلة جداً وتبلغ 3.4 في المئة الى أنها تثق تماماً بقدرة حكومة جديدة على حلّ الأزمة”.
ويرى الحكيّم أن مفاعيل هذة الازمة ستكون خطيرة جداً على لبنان: “فالأولى تتعلق بنقص نحو 500 ألف لبناني خاصة من جيل الشباب خلال 10 سنوات منذ بدء الأزمة، والسؤال الأساسي هنا: من سيملأ هذا الفراغ؟ والثانية تتعلق بتأثر إسم لبنان وسمعته وبالتالي القدرة التفاوضية للشباب مع الخارج في إيجاد فرص عمل ومرتبات تليق بهم”.