هذا هو الحلّ لكهرباء “رخيصة” ولا تكلّف الدولة

سقط الوعد الذي قامت عليه زيادة تعرفة الكهرباء في تشرين الأول الماضي، وهو زيادة ساعات التغذية إلى عشر ساعات يومياً، وصار الحديث عن أربع ساعات فقط، فيما تعود المماحكات السياسية في إدارة الملفّ إلى سيرتها الأولى.

تسلّم فيّاض الوزارة في أيلول 2021، أي قبل 16 شهراً، والحقّ يُقال أنّه أعدّ خطّتين للكهرباء، أولاهما تحديث لخطة أسلافه لإنشاء المعامل، وقد قدّمها في شباط 2022، والثانية خطّة طوارئ أُنجزت في حزيران الماضي، ومن ضمنها خطة استجرار الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا، وشراء الكهرباء من الأردن.

الخطّة الأولى هي الأهمّ، ومع ذلك تبدو وكأنّها موضوعة في الأدراج، فيما يتركّز اهتمام الوزير على تحقيق إنجاز سريع بتوفير عدد ملموس من ساعات التغذية. لكن حتى هذا الإنجاز الجزئي يصطدم بالعقبة تلو العقبة.

مختصر التعقيدات الجديدة أنّ مصرف لبنان يرفض توفير اعتمادات مستندية بأكثر من 300 مليون دولار، فيما المطلوب 600 مليون دولار لتغطية الدورة الكاملة لتكوين رأس المال العامل (working capital) اللازم لتسيير النموذج المالي الجديد لكهرباء لبنان، وهي دورة تستغرق خمسة أشهر.

هناك مشكلة أخرى عالقة بين مصرف لبنان ووزارة الطاقة تتمثّل في سعر الصرف الذي سيتمّ اعتماده لتحويل الليرات اللبنانية التي ستجبيها “كهرباء لبنان” إلى دولارات من أجل شراء الفيول للمعامل. فالتسعيرة الجديدة للكهرباء محدّدة بالدولار (27 سنتاً للكيلووات ساعة، و10 سنتات لأوّل 100 كيلووات ساعة)، ومن المفترض أن تجبى بالليرة، وفق إعلان “كهرباء لبنان”، على أن يتمّ تحويلها إلى الدولار على سعر صيرفة. فجأة اكتشف مصرف لبنان أنّ هناك فجوة كبيرة بين سعر السوق السوداء وسعر صيرفة، فطلب من وزارة الطاقة اعتماد سعر صيرفة مع إضافة عشرة في المئة. منذ ذلك الحين طرأ متغيّر مهمّ، وهو رفع سعر صيرفة إلى 38 ألف ليرة، وهو ما يعني أنّ تسعيرة الكهرباء ستقفز بأكثر من 20% إضافية.

تُضاف إلى هاتين العقبتين المماحكات الدائرة حول سلفة الخزينة التي يتردّد أنّها ستكون البند الرئيسي على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي يستعدّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي للدعوة إليها.

العودة إلى البنك الدوليّ

أمام هذه العقبات، لا يبقى أمام وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض إلا أن يعود إلى رهانه على البنك الدولي لتمويل خطة الطوارئ. خرج فياض مع مارسيل غانم في برنامج “صار الوقت” على شاشة mtv ليقول صراحة إنّه لم ينشر إعلان التوظيف لأعضاء الهيئة الناظمة للكهرباء إلا لأنّ البنك الدولي اشترط البدء بإجراءات تأسيس الهيئة كي يوفّر (البنك) التمويل لاتفاقيّتَيْ استجرار الغاز من مصر وشراء الكهرباء من الأردن.

قدّم فياض بعدئذٍ مطالعة طويلة ليثبت بشكل غير مباشر أنّ دور الهيئة الناظمة ثانوي، فيما يبقى دور الوزارة أساسيّاً في إدارة قطاع الكهرباء.

قال الوزير إنّ مهمّة الهيئة تنظيم مشاركة القطاع الخاص في قطاع الكهرباء، فيما يبقى للوزارة وضع السياسات ومنح الامتيازات وتوقيع العقود مع المستثمرين.

هكذا تكتمل الحلقة المفرغة لملفّ الكهرباء: العونيون يريدون بناء المعامل بشروطهم ولا يريدون الهيئة الناظمة، فيما الآخرون يريدون الهيئة الناظمة لتقليص النفوذ العوني في القطاع، ولا يسهّلون بناء المعامل بشروط العونيين. الخطة تلو الخطة تسقط أمام هذا العبث.

أين الخطأ؟

المشكلة مع وليد فياض أنّه “تكنوقراط” دخل الوزارة مسلّماً بالأجندة السياسية التي أتت به. والمفارقة أنّه هو نفسه كان يتولّى تقديم الاستشارات للعديد من الدول الخليجية في إعادة هيكلة قطاعات الكهرباء لديها، من خلال شركات الاستشارات العالمية التي عمل فيها. ومن المؤكّد أنّه يعرف الحلول أكثر من أيّ أحد آخر.

كان فياض في حاجة إلى تطبيق الاستشارة التي أخذت بها أكبر دول الخليج والتي تقضي باعتماد النموذج المطبّق في أوروبا لتحرير سوق الكهرباء وإعادة تنظيمه. فلو أنّه طبّق ما كان ينصح به هناك لكانت المشكلة انتهت في لبنان.

نموذج “كهرباء زحلة” لا يصلح حلّاً لمشكلة الكهرباء، لكنّه يصلح دليلاً على أنّ إشراك القطاع الخاص، مهما كانت شروطه وظروفه سيّئة، يوفّر ساعات تغذية أكثر ممّا تحصل عليه بقية المناطق اللبنانية من دون أن يكلّف الدولة قرشاً واحداً، وتبقى فاتورة الكهرباء التي يكبّدها للمستهلك أقلّ بكثير من المولّدات المنتشرة في الأحياء في المناطق الأخرى.

ميزة “كهرباء زحلة” أنّها تستفيد من “اقتصاد الحجم” بوجود ما يقارب 70 ألف مشترك لديها، ولأنّها تستخدم نفس شبكتَيْ التوزيع والجباية المستخدَمتين أصلاً لتوزيع “كهرباء الدولة”، فيما يحتاج كلّ صاحب مولّد إلى مدّ شبكة كابلات خاصة به، وشبكة جباية خاصة، وعدّادات خاصة.

لكنّ السلبيات الكبرى في “كهرباء زحلة” أنّها تنتج الكهرباء مستخدمة وقود الديزل المكلف جدّاً إذا ما قورن بالفيول أويل أو بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وأنّ الامتياز ممنوح لأسعد نكد بلا منافسة، وبلا ممارسات تنظيمية وإشرافية مقبولة.

في الصيف الماضي، طرحت وزارة الطاقة مناقصة لمنح امتياز بديل في زحلة يحلّ محلّ امتياز شركة كهرباء زحلة الذي كان على وشك الانتهاء في نهاية 2022. إلا أنّ المناقصة فشلت وتمّ تمديد الامتياز بحكم الأمر الواقع لثلاثة أشهر.

خلال فترة الطرح، قدّم النائب ميشال ضاهر حقائق مهمّة تساعد في حلّ المشكلة في لبنان كلّه، وليس فقط في زحلة. إذ كشف أنّه استدرج بنفسه أربعة عروض من شركات أجنبية لتركيب وحدات صغيرة نسبياً لإنتاج الكهرباء بتكلفة سقفها الأعلى 21 سنتاً لكلّ كيلووات ساعة. وهذا السعر يفترض التحوّط ((hedging لسعر الفيول أويل لخمس سنوات مقبلة.

يجب أن نتذكّر أنّ “كهرباء لبنان” حدّدت تسعيرتها الجديدة عند 27 سنتاً للكيلووات ساعة. وهذا يعني أنّ تسعيرة “كهرباء لبنان” تكفي لتوفير الكهرباء 24/24 من خلال وحدات صغيرة للإنتاج اللامركزي في المناطق، وهناك الكثير من الشركات المستعدّة للدخول في استثمارات من هذا النوع.

الضاهر هو صاحب اقتراح لامركزية الإنتاج، ويقول إنّ العديد من الكتل الكبرى باتت مقتنعة به. وميزة هذا النموذج أنّه يخفض حجم الاستثمارات المطلوبة لتحديث خطوط النقل المتهالكة بين المناطق، والتي تتسبّب بهدر فنّي كبير، يُضاف إلى الهدر غير الفنّيّ (السرقة).

الحلّ المثاليّ

في النهاية يمكن المزج بين معامل كبيرة تغذّي المدن الرئيسية، ووحدات إنتاج لامركزية في الأطراف. لكن لينجح الإنتاج غير المركزي عن طريق القطاع الخاص لا بدّ من إعادة تنظيم القطاع، من خلال:

1- إنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء، من دون انتظار تعديل القانون.

2- تأسيس شركة تتولّى شراء الطاقة من جميع منتجي الكهرباء على الأراضي اللبنانية، وفصلها عن كهرباء لبنان.

3- طرح مناقصات لعقود شراء الطاقة من المنتجين المستقلّين لعشر سنوات، بحدّ أدنى للطاقة الإنتاجية 50 ميغاوات. ويشمل ذلك الطاقة التقليدية والمتجدّدة.

4- طرح مزايدات لامتيازات توزيع الكهرباء في المناطق على غرار “كهرباء زحلة”.

5- فصل نشاط نقل الكهرباء (transmission) وجعله تحت يد شركة حكومية مستقلّة، لتصبح شبكة النقل مستقلّة ومتاحة لجميع المنتجين بشروط عادلة ومتساوية.

6- توحيد شبكات التوزيع والجباية، ومنع أيّ منتج للكهرباء (أصحاب المولّدات) من مدّ شبكات كابلات خاصة.

7- فصل مرافق الإنتاج التابعة لكهرباء لبنان تحت مظلّة شركة أو أكثر، وطرح حصص فيها لمستثمرين استراتيجيين، وإعدادها للاكتتاب العام في مرحلة لاحقة بعد إعادة هيكلتها وتحويلها إلى الربحية.

ليست مشكلة لبنان في توافر الأموال للاستثمار في الكهرباء، بل في أنّها تذهب إلى المكان الخطأ. فمنذ ثورة 17 تشرين إلى اليوم قاربت الاستثمارات الخاصة في القطاع مليار دولار، وهذا الرقم كان كافياً لإضاءة البلاد 24/24 لو أنّه صُرف في المكان الصحيح. لكنّ الواقع أنّ الاستثمارات تشتّتت وذهبت إلى تركيب أنظمة الطاقة الشمسية بشكل عشوائي على أسطح المنازل، وشراء أنظمة تخزين طاقة لا حاجة إليها.

كرّر فياض خطأ جميع الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة منذ عام 2011 حتى اليوم، الذين لم يأخذوا تنظيم مشاركة القطاع الخاص على محمل الجدّ، ولذلك لم يوفّروا جهداً لعرقلة تأسيس الهيئة الناظمة.

 

مصدرأساس ميديا - عبادة اللدن
المادة السابقة“ليبان بوست” تُسابق الزمن… كيف تُحرم من “المزايدة”؟
المقالة القادمةالإدارة اللبنانية تحتضر والشغور يلامس 70 بالمئة