هذه هي الأزمة المالية وهذه حلولها

لسنوات خلت، وايذاناً بواقع مالي غير مستقر، نفّذ مصرف لبنان مع المصارف اللبنانية في تشرين الاول من العام 2016 ما سمّي «بالهندسة المالية»، لقاء فوائد مرتفعة جداً، لتغطّي فترة خمسة أشهر فقط تمتد من أول حزيران حتى نهاية تشرين الأول 2016. هذه العمليات بقيت متواصلة وإن بوتيرة أبطأ، وبلغت ارباحها نحو 5.2 مليارات دولار، في المقابل فقد شهد لبنان في تموز 2017 اقراراً لسلسلة الرتب والرواتب بعدما رفضها الرئيس ميشال عون الذي عقد مؤتمراً اقتصادياً دعا اليه الهيئات الاقتصادية وممثلين عن الأحزاب اللبنانية الممثلة في المجلس النيابي، وذلك تحت شعار “انا بريء من دم هذا الصدّيق”، بحيث كلفت السلسلة الخزينة اللبنانية اضافة سنوية قدرت بمليار وثلاثماية مليون دولار أكثر على ما كان محتسباً اي ثمانماية مليون دولار، وشكلت عبئاً كبيراً واضافت اعباءاً على الخزينة التي كانت تعاني أصلاً من عجز كبير لا يمكنها تحمله، ليقوم بعدها سياسيون بتوظيف 5000 لبناني في الادارة اللبنانية خلافاً للقانون بعد منع مجلس الوزراء التوظيف فيها، وذلك بسبب عجز الدولة اللبنانية المالي، وتعرضها لضغوطات مالية كبيرة بسبب العجز الذي يتسبب به الدين العام، وموازنة الكهرباء، وكتلة أجور الموظفين…

في 4 تشرين الثاني من العام 2017، اعلن الرئيس سعد الحريري عبر رسالة متلفزة استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، ليتبن انه قيد الاحتجاز في فندق الريتز في الرياض… الخبر وقع كالصاعقة على المسوؤلين وعلى المواطنين بحيث عقد اجتماع مالي في بعبدا بهدف طمأنتهم، ليبدأ بعد ذلك لبنان مرحلة الخوف المالي من قبل المودعين في مصارفه، وكذلك بدء انعدام الثقة بالقطاع وقد كلف ذلك المصرف المركزي حوالي ال 4 مليارات دولار لتثبيت سعر الصرف.
في نيسان من العام 2018، عقد مؤتمر سيدر في باريس، والذي حضره الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والذي يهدف الى دعم التنمية والاصلاحات في لبنان وتقرر منح لبنان مبلغ 10.2 مليار دولار مشروطة بإصلاحات بنيوية في لبنان.
بعد انتخابات آيار من العام 2018 شهد الوضع اللبناني انكماشاً اقتصادياً قوياً، بدأت ملامحه تظهر بوقف القروض السكنية من المؤسسة العامة للإسكان، وذلك بسبب شح الأموال النقدية المتوفرة، ما أظهر هشاشة الوضع المالي وترافق ذلك مع تسابق المصارف على اعطاء فوائد مرتفعة لا بل خيالية بغية استجلاب المزيد من الودائع، وبدء رؤوس الأموال باللجوء الى بلدان وأنظمة مصرفية خارج لبنان أكثر آماناً.
في العاشر من كانون الثاني من هذا العام اثار تصريح وزير المال اللبناني علي حسن خليل حول اعادة هيكلة الديون موجة من الذعر، مما ادى الى إنهيار اسعار سندات لبنان الائتمانية، وكذلك الى خسارة مبلغ قدر بحوالي ستة مليارات دولار أميركي، عاد لبنان الى تعويض اغلبها بعد اجتماع مالي عقد في بعبدا وضم مسؤولين ماليين، شدد على ان لبنان لا ينوي اعادة هيكلة الديون وان ما قاله الوزير لم يُفهم بدقة.
حاولت المصارف جاهدة استجداء الاموال من المودعين، عبر رفع الفوائد، وإبقائها في حوزتها بناءاً على عاملين، عاملاً من خلال ربط الودائع بفوائد مرتفعة بآماد تجميد طويلة تمتد الى خمس سنوات بالليرة اللبنانية او بالدولار الاميركي، أو منح فوائد أعلى عند استحقاق اجل التجميد…
حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طمأنة الجميع وبخاصة المودعين الى ان الوضع المالي لا يزال سليماً وممسوكاً والى ان كل ما يقال مجرد شائعات، وذلك في جميع مراحل الازمة وأكد ان لبنان يتعهد بإلتزاماته المالية تجاه المودعين، وبالتالي فإن المصرف سيقوم بدفع الاموال المتوجبة على لبنان للدائنين، بحيث فات الحاكم ان لبنان يدفع ديونه من أموال المودعين في المصارف اللبنانية… أما رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فقد أكدا مراراً وتكراراً على سلامة الوضع المالي طالبين من المودعين عدم الخوف والهلع.
بدأ اللبنانيون فعلاً منذ بداية العام 2019 بتجميع الدولارات النقدية في منازلهم وقد بلغ حجم هذه المبالغ 4 مليارات دولار بحسب تقديرات مصرف لبنان، وهو مبلغاً يؤدي حكماً الى نقص في السيولة من العملات النقدية.
حضر الموفد الفرنسي لمتابعة مقررات مؤتمر سيدر بيار دوكان الى لبنان مراراً وتكراراً وشدد خلال زياراته في كل مرة على ضرورة العمل على مجموعة من الإصلاحات والإجراءات، والذي لم يلمس بدوره جدية في عمل الحكومة على اجراء اصلاحات جذرية لمكافحة الفساد بحسب ما صرح. كما بدا ذلك جلياً بعد الخلافات التي ظهرت أثناء دراسة موازنة ال 2019، وبعد اجتماع بعبدا الاقتصادي في نهاية شهر آب 2019 الذي هدف لطرح الازمة والحلول المطروحة، بدا المندوب الفرنسي بيار دوكان غير راضٍ عن هذا الاجتماع كونه لم يلمس اية جدية في العمل الحكومي، حاولت المصارف جاهدة الالتفاف على الوضع من خلال استقطاب المزيد من المال الجديد وطرحت فوائداً تراوحت بين 20% – 25% سنوياً على هذه الودائع بالليرة اللبنانية في حال حولت من وديعة حديثة بالدولار تدفع بالدولار لدى المصرف، ما طرح أكثر من علامة استفهام حولها لانها تشبه عمل المرابين الذين يقرضون زبائتهم بنسب فوائد تشبه الخيال.
تحركت الديبلوماسية اللبنانية وكلف أحد الوزراء مفاوضة مؤسسة المعايير والتقييم الدولية ستاندر اند بور لمنع تصنيف وضع لبنان المالي في مرتبة CCC، وذلك لأنه سيؤثر على وضع لبنان الائتماني في الخارج، نجح لبنان وتنفس اللبنانيون الصعداء، ولكن الخطر بقي محدق.
في أيلول من العام الحالي 2019 بدأ التراجع بسعر صرف الدولار والعملات الأجنبية لدى الصيارفة وفي السوق السوداء مما حدا حاكم المركزي الى التصريح في 23 ايلول – سبتمبر ان المصرف المركزي غير مسؤول عن سعر الصرف لدى الصيارفة ما أوحى ان الأزمة بدأت فعلاً، ليبدأ في أول شهر تشرين الأول شح الدولار فعلياً في السوق وعدم مد المصارف المودعين فعلياً بالأوراق النقدية من العملات الصعبة…
بدأ الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول ليدخل الوضع المالي مرحلته الأصعب، واقفلت المصارف، لتعود وتفتح ابوابها بعد احد عشرة يوماً، ولكن هذه المرة مع منع كامل للتحويلات الخارجية capital control غير معلن، وتحديد سقف للسحب حدد ب 1000 دولار اميركي من الحساب الواحد في الاسبوع، ما لبث ان تدنى ليصبح اكثر صرامة ويصبح خاضعا للأنظمة الالكترونية في المصارف وليصبح اسميا (بحسب اسم مالك الحساب وليس رقم حسابه) ويتدنى الى ال300 دولار اسبوعياً في بعض المصارف، عاكساً أزمة جدية وحادة جداً.
إرتفع سعر الدولار ولامس 2300 ليرة في بعض الأحيان، كما تبين ان سوقاً سوداء تضرب البلاد، وبأن استيراد النفط والفيول تضاعف في وقت انكماش السوق في لينان، ما يعكس اشارات واضحة عن تموين السوق السوري بالنفط المهرب من لبنان من اعتمادات وتسرب مالي من مصارف لبنانية، ما حدا المصرف المركزي الى التشدد اكثر في فتح هذه الاعتمادات.
عمدت السلطات المالية الى تثبيت سعر الصرف للدولار الاميركي على سعر 1510 – 1512 والاحجام عن تسليم الدولار الى المودعين، والاكتفاء بتسليم الليرة، بحيث اصبح الدولار في المصرف يساوي الليرة، ما دفعنا الى تسمية العملية ب “تليير الدولار” اي ان الدولار في المصرف له سعر الليرة ومكانتها.
أما الازمة المالية فإنعكست مع أزمة في تمويل الاستيراد وبخاصة النفط، والطحين، والادوية والتجهيزات الطبية، والمواد الاولية الصناعية اضافة الى سلع اخرى مختلفة، كل ذلك في ظل وجود أزمة تضرب قطاعات انتاجية مختلفة وسط اقتطاع معظم الشركات والمؤسسات الانتاجية والتربوية والاعلامية والصناعية والزراعية وغيرها لحوالي 50% من معاشات وأجور موظفيها وسط حالة ركود مخيف في الاسواق المحلية.
الحلول
لا بد هنا من طرح اقتراحات لعددٍ من الحلول تجنب اللبنانيين والمصارف اللبنانية أزمة السقوط المالي لذلك ارتأنيا بعد هذا السرد المالي اقتراح ما يلي:
اولا: تشكيل حكومة باقصى سرعة لإعطاء جرعة أمل للمودع اللبناني وغير اللبناني.
ثانياً: وقف التحاويل غير المبررة تجارياً الى الخارج من قبل المودعين بشكل كامل.
ثالثاً: العمل على جلب وديعة مالية من الخارج من الدول الصديقة للبنان، أو من أموال المصارف الموجودة حارج لبنان، وضخ كمية أموال نقدية بحوالي 3 – 4 مليار ليرة ما سيؤدي حتماً الى اعادة الأموال المخبأة في المنازل واعادتها الى المصارف ما سيترجم بتحقيق وفرة كاملة في السيولة في المصارف على ان تأتي هذه الخطوة بعد تأليف الحكومة واستعادة جزء من الثقة.
رابعاً: تجميد الودائع في المصارف لفترة تترواح بين سنتين وثلاث سنوات مع ضمان دفع الفوائد للمودعين طوال هذه الفترة.
خامساً: خفض الفوائد للحسابات الدائنة والحسابات المدينة بشكل كبير ومدروس وبخاصة للودائع المجمدة لأمد طويل والتي حظيت بفوائد مرتفعة جداً وخيالية لا قدرة للمصارف على تحملها.

مصدرربيع الهبر - ليبانون فايلز
المادة السابقةأبو شقرا: لا إضرابات جديدة ونمد يدنا للحوار
المقالة القادمةالجوع يُطوّق اللبنانيين.. نسبة الفقر 50 بالمئة