يتوقّع لبنان تقديم مقترح إقرار قانون إدخال ضوابط على رأس المال أو ما يُعرف بـ”الكابيتال كونترول”، وهو إجراء من المتوقّع أن يحلّ مكان الرقابة غير الرسميّة التي وضعتها جمعية المصارف اللبنانيّة في تشرين الثاني العام ٢٠١٩ على أثر اندلاع الاحتجاجات في الشارع، على الرغم من أنّ تلك الرقابة كانت بطيئة التنفيذ وغير مباشرة وواضحة.
كان الكابيتال كونترول ليكون مفيدًا في بداية الأزمة، أمّا اليوم فهو عديم الجدوى، ولا يُنتظر منه سوى أن يكون حبرًا على ورق، وإشارة من مصارف تحتضر، وتلبية لتوصيات صندوق النقد الدوليّ. إلى جانب ذلك، كان يحرّك مطلب البنوك حينها مسعى بسيطاً، إذ كان يمكنه أن ينقذهم من عددٍ لا يُحصى من الدعاوى القضائيّة من المودعين الساخطين. لكن بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الأزمة، لن يكون لهذا التحكّم في رؤوس الأموال سوى الآثار الضارّة، وتبعاتٍ ارتداديّة تهزّ كيان المجتمع اللبنانيّ المتهالك، وتُفقده الشعور بالأمان.
ففي هذه الأثناء، يمكننا أن نفترض أنّ كبار المودعين قد حصّنوا أنفسهم، ونجحوا بتحويل أموالهم منذ فترة طويلة إلى الخارج مستفيدين من نفوذهم. والآن، يستقوي أصحاب المصارف بـ”السيطرة” على صغار المودعين، الذين يستخدمون حساباتهم المصرفيّة لإرسال بعض الأموال لأولادهم الذين يدرسون في الخارج على سبيل المثال، أو التجّار والمستوردين الذين يحافظون على استمرار الاقتصاد الوطنيّ ويحاولون انعاشه بعد كلّ “هزّةٍ” اقتصاديّة.
قريبًا، قد يتمّ حظر كلّ شيء إلى حدّ بعيد، ويكمن الخطر في رقابة اللجنة المؤلَّفة لإدارة مشروع الكابيتال كونترول، التي تعطي إذن التحويل ومقدار المبالغ الممنوحة. هكذا، نجد أنّ الضوابط التي ستُفرَض على رؤوس الأموال المتبقيّة، ستعمل على قطع الإمدادات الحيويّة، لتُعلن نهاية الاقتصاد الحرّ، وتشريع الطريق لديكتاتوريّة تَحكمُ بسيطرتها على أموال المواطنين. من دون أن نغفل حقيقة أنّ البنوك التي لن يكون لها رأي في تحديد الأمور، ستكون مجرّد جهات منفِّذة، قد تحوّلت إلى مجرّد “عدادات” أو “مكنات”، وفي كثير من الأحيان… فارغة من جوهر وجودها، أي المال.
عندما سيتمّ تنفيذ نظام مراقبة رؤوس الأموال كما هو متوقّع، سيكون من الضروريّ أوّلًا إجراء مراجعة كاملة لدوائرها التنظيميّة، وعندها فقط يمكن تحديدها في إطار مشروع أوسع شمولًا بالتزامن مع إعداد قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ، والقوانين التي ستنظّم الديون، أي أنّ البرلمان اللبنانيّ أمام ثلاثة قوانين يجب أن يصوّت عليها معًا. هذه هي الطريقة السليمة لرصد استقرار الاقتصاد اللبنانيّ وتماسكه أو تقييم الخطط الوقائيّة التي يمكن أن يوجدها، ووضع المستشعرات التي يُقاس على أساسها. خلافًا لذلك، سيكون من المستحيل الإجابة، على سبيل المثال، عن الأسئلة البسيطة التالية: إذا تمّ تطبيق قانون الحجز على رؤوس الأموال، فمن الذي يقرر فترة صلاحيّته وانتهائه؟ ومن الذي يقرر المعايير الكيفيّة والكمّيّة؟
في هذه المرحلة، تُطرح التساؤلات التالية: ألا يستطيع الكابيتال كونترول سوى تنظيم “المال القانونيّ”؟ ألن يؤدّي تنفيذ هذا القانون إلى تطوير حلقات موازية للتدفقات الماليّة غير القانونيّة وغير المصرّح بها على الفور؟
عمليًّا، نرى أنّ خطّة صندوق النقد الدوليّ لحلّ الأزمة في لبنان غير قابلة للتطبيق. فلا بدّ من فصل توقيع الاتفاقيّة عن الخطّة الحاليّة التي وضعتها الحكومة اللبنانّية والتي تتمثّل يا للأسف، لا أكثر ولا أقلّ، في تحطيم القطاع الخاصّ. علاوة على ذلك، يشتكي صندوق النقد الدوليّ من المتلازمة اللبنانيّة التي يتفاخر بها بعض الجُهّال في “القيادة” من دون أرقام أو حسابات.
في الواقع، إنّها خطّة للحكومتين المتعاقبتين. وتستند الفكرة إلى حقيقة وجود “خسائر” أو بالأحرى “ديون” تُقدّر بـ ٧٣ مليار دولار أميركيّ. ومع ذلك، نعلم أنّه بما يخصّ الأفراد، فإنّه يمكن إعادة التفاوض على الديون وتوزيعها ضمن خطط زمنيّة بديلة. وتجدر الإشارة إلى أنّ لبنان لديه ٣٥ مليار دولار أميركيّ فقط من الديون الخارجيّة، وهو أمر يمكن إدارته بشكل كامل.
من ناحية أخرى، يقترح صندوق النقد الدوليّ تقديم ٣ إلى ٤ مليارات دولار أميركيّ موزّعة على ٤ سنوات. من الواضح أنّ هذا المبلغ لا يكفي، ولا يمكن أن يكون حتّى مجرّد “بحصة” تسند الجرّة، التي ستنكسر مع أيّ اهتزاز. كما أنّ الأمور غامضة من ناحيّة كيفيّة سداد هذه المبالغ، خصوصًا أنّ لبنان لم يشرع حتى هذه اللحظة بأيّ إجراءات إصلاحيّة، أو نيّة الإعلان عنها. وهذا يعني ببساطة أنّه في ظلّ الظروف الحاليّة، ومن دون إصلاحات، فإنّ أيّ خطّة ستولّد ديونًا هي بمثابة “هزّات ارتداديّة” جديدة تُضَاف إلى الديون السابقة، وتزيد من خطر سقوط الهيكل الماليّ اللبنانيّ.
تتشبّث الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة بهذه “الخطّة المنشودة” لأسباب سياسيّة، ولتجنّب التهديد بفرض عقوبات دوليّة. إذ انّنا في الحقيقة، قد نشهد موت القطاع الخاصّ تحت “ركام” النظام الاقتصاديّ الآيل للسقوط، الذي يُنتظر منه في الوقت نفسه أن يستثمر، ويخلق فرص العمل، ويسند الحلقة الاقتصاديّة ويدعمها.
تتمثّل الخطّة الحكوميّة في استخدام رؤوس أموال المصارف، وأموال المودعين لسداد خسائر الدولة أو ديونها. وإذا تمّ تنفيذ هذه الخطّة، سنجد أنّ جميع المستثمرين، سواء اللبنانيّين أو الأجانب، سوف يلوذون بالفرار ولو بالأموال التي بقيت في جيوبهم، قبل انهيار نظامٍ ما زال يستلِف ممّا تبقّى من أموال الناس، إن لم نقل “يسلبها”.
لذلك يبدو أنّ الحكومة تتذرّع بأنّ الوضع بات مُلِحًّا خصوصًا أنّ الموعد النهائيّ للحصول على اتّفاق مع صندوق النقد الدوليّ لتمرير المشروع بالغ الأهمّيّة في العديد من الجوانب، على الرغم من أنّه يفتقر إلى الجانب الشموليّ. ولأسبابٍ وجيهة، فإنّ تقديم نصّ القانون هذا مصحوبًا بالعديد من الأسئلة عن الأهداف الحقيقيّة التي تضعها الحكومة، حيث إنّها حاولت بالفعل أن تقدّم إلى صندوق النقد الدوليّ مشروعًا لتوزيع خسائر القطاع المصرفيّ على حساب تضرّر المودعين بنسبة وصلت إلى ٥٥ % من مدّخراتهم، ولصالح مساهمي المصارف الكبار.
لا يزال من غير الواضح ماهيّة الخطّة الحكوميّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفيّ، أو الدين العامّ. هذه الجوانب من خطّة الإنعاش ضروريّة في جميع جوانبها لتكون معروفة اليوم من أجل طمأنة القطاع الماليّ. إذ إنّ ضوابط رأس المال من دون عودة الثقة، ومن دون تغيير قادة القطاع الماليّ الذي أدى سابقًا إلى ضَعضعته، إن لم يكن انهياره، لا تعني شيئًا على أرض الواقع، بل تزيد من عوامل خلخلته.
إنّ عمليّة تدخّل انقاذيّ تبدو وكأنّها خطّة مخادعة واحتياليّة، تزرع الريبة في القلوب بدل طمأنة المواطنين الذي يرجون نجاة مؤسَّساتهم الاقتصاديّة والماليّة بمعجزةٍ ما… فبدون قانون واضح لإعادة هيكلة المصارف، وخفض الواردات، وتعديل قانون السرّيّة المصرفيّة، وتوحيد معدّلات التصريف والتحويل، والرقابة القضائيّة، وبلورة الأولويّات الحقيقيّة لصندوق النقد الدولي، وقانون تنظيم عمليات السحب والتحويل “الكابيتال كونترول” المقدّم إلى التصويت في البرلمان اللبنانيّ، فإنّنا بحسب صندوق النقد الدوليّ، أمام قانون عفوٍ عام مقنّع لصالح مصرف لبنان، والمصارف ومساهميها المتورّطين.
للتذكير، لم تمنع الضوابط “غير الرسميّة” على رأس المال تحويلات مهمّة إلى الخارج منذ تشرين الثاني ٢٠١٩ لصالح رجال بارزين سياسيًّا. وتقدّر بعض المصادر أن عشرات المليارات من الدولارات الأميركيّة قد هُرِّبت من لبنان بالدولارات “الفريش”، بينما يشهد المواطنون تَآكل قيمة مدّخراتهم مع تدهور قيمة الليرة اللبنانيّة، وتضاعف أسعار الصرف المتعدّدة، ممّا أدى إلى تلاشي قدرتهم الشرائيّة.
وبالتالي، أصبح التحكّم في رأس المال، عبارة عن “تهديد” جديد مُتاح للمصارف ضدّ تحقيق العدالة. فإذا كان لدى مصرف لبنان احتياطات بقيمة ٥٥ مليار دولار أميركيّ في العام ٢٠١٩، أي قبل ظهور الأزمة الاقتصاديّة. فإنّه من المؤسِف أن نعلم أنّ احتياطاته الحاليّة، التي تهدف في المقام الأوّل لأن تكون السند الداعم للمنظومة الاقتصاديّة اللبنانيّة، قد تقلّصت إلى ما يقدّر بـ ١١,٥ مليار دولار أميركيّ، أو حتّى أقل من ٧ مليارات دولار بإلغاء ديون البنك المركزيّ. لذلك شهد مصرف لبنان انخفاضًا في احتياطاته بمقدار ٤٣,٥ مليار دولار أميركيّ في ثلاث سنوات، أو ١٤,٥ مليار دولار سنويًّا. لكن من يُسائل مصرف لبنان قضائيًّا عن هذا الانخفاض الحادّ؟
من القضايا الرئيسيّة التي تواجه اللبنانيّين حقيقة عدم وجود تدفقات ماليّة كافية لموازنة التضخّم. في الواقع، من الضروريّ السماح بعدم الاستثمار في المصارف على حساب الشركات، لإيجاد رؤوس الأموال وخلق فرص العمل، والسماح للمواطنين بالعيش بطريقة لائقة، لأنّهم عانوا الأمرّين في بلد يسجّل أعلى درجات على مقياس الزلازل الاقتصاديّة.
ولا نريد أن تضربنا أيّ كارثة طبيعيّة أو مصطنعة لنتذكّر أنّ ٨٢ ٪ من اللبنانييّن يعيشون تحت خطّ الفقر وأنّ ٣٦ ٪ منهم في حالة فقرٍ مدقع بحسب الإحصائيّات الدوليّة. فإذا كان هذا مشروع “الكابيتال كونترول” يهدف على هذا النحو إلى إعادة تنشيط النظام الماليّ عن طريق الرقابة الرسميّة، والشفافيّة الموضوعة على تحويلات العملات الأجنبيّة، إلّا أنّه يفتقد إلى المكوّنات الأساسيّة الأُخرى خصوصًا فيما يتعلّق بالمشروع الحقيقيّ لتوزيع خسائر القطاع الماليّ.
بذكر الرقابة على أسعار الصرف، يخطّط المشروع تقليص إمكانية السحب إلى ١٠٠٠ دولار أميركيّ فقط، أو ما يعادله بالليرة اللبنانيّة من دون تحديد دقيق لآليّات توحيد أسعار الصرف بين سعر الصرف الرسميّ الذي عرف تحديثًا جديدًا وغير مسبوق ليُصبح ١٥٠٠٠ ليرة لبنانيّة / دولار أميركيّ، وسعر الصرف ٣٩٠٠٠ ليرة لبنانيّة / دولار، بحسب منصّة صيرفة، من دون أن ننسى السعر الأهمّ والأكثر واقعيّة، والأشدّ تقلّبًا، أي السوق السوداء.
يجب أن يكون المودعون قادرين على استرداد أموالهم، حتّى لو اضطروا إلى تعويضها على أقساط أو استبدالها بأسهم في المصارف. إذ يجب أن تكون هذه الأخيرة جزءًا لا يتجزّأ من الجهود المبذولة لإعادة تدعيم الاقتصاد اللبنانيّ. فعلاوة على كلّ ما ذُكِر، يجب إصلاح القطاع العام من قمّته إلى قاعدته. فالدولة اللبنانيّة غنيّة بالمرافئ العامّة، والآثار، والمرفقات السياحيّة، والخدمات، والمؤسّسات التربويّة، وريادة الأعمال… التي يمكن أن تكون مربحة للغاية.
إنّ المطلوب خصخصة مجالس إدارات الشركات العامة الكبرى، وإجراء عمليّات خصخصة جزئيّة في قطاعات معيّنة، وإنشاء صندوق سياديّ له لجنة رقابيّة تتولى إدارة الأرباح والمشاركة في سداد الديون. تكمن أولويّة هذا الصندوق السياديّ الكُبرى عندما يُستخرج الغاز في الحقول البحريّة وتسويقه في لبنان والعالم، لأنّ توزيعات أرباحه ستصبّ بوجهٍ حتميّ في هذا الصندوق.
تشكّل أسعار الصرف المختلفة هذه خطرًا داهمًا يُقلِق المودعين ويولِّد لديهم الكوابيس، ويشعرهم بعدم الاستقرار الدائم. فبدون توحيد أسعار الصرف، يُخشى أن تؤدّي الهزّات المتتابعة إلى مزيد من التخلخل الاقتصاديّ والماليّ، الذي تُنذر به قيمة الليرة اللبنانيّة المتدهورة، ونستفيق في يومٍ يأتي فيه زلزال مدمّر ويقضي على “الصامد” و”المتهالك”… هكذا، وللأسف، نجد أنّ الاقتصاد اللبنانيّ بات يتحوّل أكثر فأكثر إلى اقتصادٍ نقديّ، معزول عن الدوائر الماليّة الدوليّة. فهل تكفّ الحكومة اللبنانيّة عن المماطلة لصالح المصارف، وتُساند مصالح الشعب الذي يمثّل الحلقة الأضعف؟ أمّ أنّ أمر انهيار البلد لا يعنيها؟ أو يعمل لمصلحتها الشخصيّة؟