في رسالته إلى رئيس الحكومة، أصرّ نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، على الإشارة إلى أنّ مسار التدقيق الجنائي لم يُنجز بعد، بفعل العراقيل التي حالت دون وصول شركة التدقيق إلى المعلومات بشكل مقيّد. وبمجرّد التعمّق في مضمون تقرير، يتبيّن سريعًا نوعيّة العراقيل التي وضعها رياض سلامة أمام الشركة، والتي تُقارب حدود الاستهزاء بالشركة والإستهانة بمهمّتها. فسلامة، المشتبه به الأساسي في ملف التدقيق الجنائي، عرف نوعيّة المعلومات المطلوب إخفائها عن عيون الشركة، للحؤول دون التوسّع بكشف ارتكاباته، وهو ما فعله من دون أدنى حد من الخجل. والدخول في تفاصيل التقرير، يشير أيضًا إلى ما لم يتمكّن التدقيق الجنائي من كشفه، ما يفتح باب السؤال عن خطوات الحكومة المقبلة.
وقاحة المشتبه به وقلّة حيائه
مقدّمة التقرير، تعطي دروسًا لمن يهمّه الأمر، في أداء المشتبه به الوقح، حين تصل الأمور إلى مرحلة التدقيق بارتكاباته. في الأصل، كانت الشركة تتسلّح بتعديل مهم قام به المجلس النيابي على قانون سريّة المصارف، لتتمكّن من الولوج إلى داتا مصرف لبنان من دون أي قيود. لكنّ في مصرف لبنان، رياض كان القانون، والقانون كان رياض.
وستصبح المسألة مفهومة إذا ما عرفنا أن الجهة المشرفة على التدقيق، والتي كان يفترض أن تجبر رياض على التعاون مع آلفاريز آند مرسال، هي وزارة الماليّة، التي شاءت الأقدار (أو الإرادة السياسيّة المتعمّدة) أن تقع تحت يد الوزير الحالي يوسف الخليل.
ولمن لا يذكر، الخليل نفسه هو مدير العمليّات في مصرف لبنان، الذي لعب أدوارًا بطوليّة إلى جانب رئيسه في المصرف، في كل ما تدقّق به الشركة اليوم. وكحال فرعون حين سُئل عن من فرعنه، في المثل الشعبي الشهير، لم يجد رياض من يردّه، لا من جهة وزير الماليّة ولا من جانب الحكومة. فتمادى.
تشير الشركة في تقريرها إلى أنّ سلامة رفض إعطاء الشركة الولوج إلى مبنى المصرف المركزي، لمعاينة المعلومات بشكل مباشر على نظام المعلوماتيّة الخاص بالمصرف. وللمزيد من العرقلة، سلّم سلامة الداتا كمجموعة نصوص رقميّة عشوائيّة، أي ما يُعرف بالـRaw Data، بدل تسليمها على شكل جداول يسهل فرزها وتصنيفها وتبويبها والتعامل معها. وهكذا، أقحم سلامة الشركة في مهمّة إعادة تبويب ملايين الأرقام في مئات الجداول، طوال فترة التدقيق.
وفي مكاتب وزارة ماليّة، حيث عمل فريق الشركة بعيدًا عن أرض المصرف المركزي المحرّمة، كان انقطاع الكهرباء سيّد الموقف. وهذا ما أفقد المدققين الداتا التي يعملون عليها مرارًا وتكرارًا، لكون الداتا مخزّنة في “سيرفر” منفصل عن أجهزة الكومبيوتر. وبعد كل انقطاع للتيّار الكهرباء، كان فريق التدقيق يحتاج لاستدعاء التقنيين من المصرف المركزي، لإعادة تنزيل المعلومات وربطها بالكومبيوتر، والعمل عليها من جديد مرّة أخرى.
ثم بعد تبويب الداتا مرارًا وتكرارًا، كان المدققون يكتشفون أن المصرف أخفى من معلومات التحويلات أهم البيانات المطلوبة: هويّة المستفيد من كل تحويل، ومنفّذ التحويل، والشرح الذي يفسّر سبب التحويل أو الغاية منه، ونوعيّة التحويل نفسها. بهذه البساطة، سلّم سلامة فريق التدقيق كتلة من الأرقام لإجراء تدقيق في تحويلات، لا يمكن فهم طبيعتها أو وجهتها. ومرّة جديدة، كان تعديل قانون سريّة المصارف لغايات التدقيق الجنائي يسمح بالحصول على كل هذه المعلومات، لكن سلامة قرّر العكس.
ثم يتبيّن من تقرير التدقيق أن الشركة كانت ممنوعة من الاتصال بأي من مسؤولي المصرف المركزي، أو مقابلتهم، ما حال دون الاستعلام عن الكثير من التفاصيل التقنيّة والماليّة الواردة في المعلومات. وبهذا الشكل، وبعد كل هذه العراقيل، احتاجت الشركة للعمل بشكل متقطّع على امتداد 13 فترة زمنيّة متباعدة، من دون أن تنجح في معالجة كل هذه المصاعب. وهذا تحديدًا ما يفسّر صدور التقرير الجنائي اليوم، بعدما كان من المقرّر أن يبصر النور في مطلع السنة الماضية.
كل ما سبق ذكره من ممارسات مهينة قام بها رياض سلامة، مع وفد شركات التدقيق، موثّق بالحرف في مقدّمة التقرير الذي أصدرته الشركة. ومع ذلك، كان بإمكان التقرير أن يحدد أبرز مكامن الشبهة، التي يمكن التعمّق فيها لاحقًا في تدقيق أكثر جديًة، ومن دون عراقيل.
ما لم يتمكّن التقرير من كشفه
في النتيجة، كان من الواضح أن تقرير التدقيق الجنائي امتلأ بالفجوات، التي تدل على أنّ هناك الكثير مما لم تتمكّن آلفاريز من كشفه، نتيجة نقص المعلومات المسلّمة إليها. أمّا الأهم، فهو أنّ سلامة اختار نوعيّة المعلومات التي يريد إخفائها بعناية، بما يسمح بالحؤول دون فضح عمليّات ترتبط بالشبهات التي عثرت عليها الشركة.
فعلى هذا النحو، يتضح من التدقيق أن سلامة أجرى بين عامي 2015 و2020 تحويلات غامضة بقيمة 111.3 مليون دولار، من نفس الحساب الذي خرجت منه سابقًا الأموال إلى حساب شركة فوري في سويسرا، أي الشركة المسجّلة بإسم شقيقه، والتي يُشتبه باستعمالها لاختلاس الأموال العموميّة بين عامي 2001 و2015. وكان من الواضح أنّ التحويلات الجديدة اتسمت بنفس نمط التحويلات التي ذهبت إلى حساب شركة فوري في السابق، ما يفتح احتمال أن تكون 111.3 مليون دولار استكمالًا لاختلاسات شركة فوري، والتي بلغت قيمتها 330 مليون دولار.
تقرير التدقيق لم يتمكّن هنا من معرفة المستفيدين من هذه التحويلات، ولا من كشف مصدر هذه الأموال التي دخلت حسابات مصرف لبنان كأموال عموميّة. كما لم تكشف الداتا الموجودة بحوزة المدققين عن طبيعة هذه التحويلات، أو سبب القيام بها. وتجدر الإشارة إلى أنّ المدققين لم يتمكنوا من العثور على خدمات ماليّة معيّنة، جرت مقابل هذه التحويلات من حسابات مصرف لبنان. وهكذا، ظلّت هذه المعلومات فجوة، لم تتمكّن آلفاريز آند مارسال من ملئها.
في الوقت نفسه، يتبيّن من التقرير أن سلامة استقبل في حسابه الشخصي تحويلات بقيمة 98.8 مليون دولار، فيما قام بتحويل نحو 103 مليون دولار من الحساب نفسه. ومن بين هذه الأموال، ثمّة 75 مليون دولار من السيولة التي ذهبت باتجاه المصارف السويسريّة، حيث كان سلامة يقوم بعمليّات تبييض الأموال، كما تشتبه المحاكم الأوروبيّة. ومن المهم الإشارة إلى أنّ راتب سلامة الشخصي لا يمثّل أكثر من 1.5% من قيمة هذه الأموال.
ومرّة جديدة، لم تتمكن آلفاريز من معرفة مصدر هذه الأموال، ولا إسم الحسابات المستفيدة من التحويلات في سويسرا. كما لم تتمكّن من معرفة سبب القيام بهذه التحويلات، أو نوعيّة الخدمات التي جرت مقابلها. وبذلك، ظلّ هذا الجانب من التقرير مبهمًا، ولو أن التدقيق تمكّن من الإضاءة على أحد مكامن الشبهة المهمّة في ممارسات رياض سلامة.
وعلى النحو نفسه، لم يتمكن التدقيق من معرفة أسماء المصارف التي استفادت من أرباح الهندسات الماليّة، ولا من كشف أسماء الشركات غير المصرفيّة التي تمكنت من الانخراط في هذه العمليّات. ومن أصل 7.6 مليون دولار التي استخدمها سلامة “لدعم” مؤسسات إعلامية وصحافيين ومراكز دراسات اقتصاديّة، لم تكشف الداتا الموجودة وجهة 2.1 مليون دولار من هذه التبرّعات. وبطبيعة الحال، لم يكشف سلامة عن سبب القيام ببعض العمليّات التي لا تتسق مع دور المصرف المركزي بحسب القانون، مثل شراء بعض العقارات التي يملكها أصحاب إحدى الصحف المعروفة في لبنان، من دون استخدام هذه العقارات لصالح المصرف المركزي.
لكل هذه الأسباب، تحتاج الحكومة اليوم إلى استكمال مسار التدقيق الجنائي، تمامًا كما طلب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في رسالته الأخيرة. وهذه الخطوة، قد تتطلّب تكليف شركة التدقيق الجنائي بإعداد تقرير آخر، بل يمكن استكمال التدقيق من خلال القضاء اللبناني، الذي يفترض أن يستعين بأصحاب الخبرات لكشف خبايا هذه الارتكابات.