في وقت يخضع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة للمحاكمة، يناقش مجلس الوزراء اليوم، في البند الثاني من جدول أعماله، تبديد سلامة نفسه، بالتكافل والتضامن مع وزير المال يوسف خليل وحكومة نجيب ميقاتي مجتمعة، نحو 1.1 مليار دولار حصل عليها لبنان في أيلول 2021 من صندوق النقد في إطار التوزيع العام لمخصّصات حقوق السحب في تلك الفترة لدعم سيولة البلدان الفقيرة إثر جائحة كورونا.وبعد نحو 3 سنوات على إيداع هذه الأموال في مصرف لبنان، تبيّن من جداول وزارة المالية التي حصلت عليها «الأخبار» أن ما تبقّى منها لا يتعدى 36 مليون دولار. ويأتي إدراجها على جدول الأعمال من باب تسوية بعض المبالغ التي صرفها خليل بالاتفاق مع سلامة، منفردَين من دون علم مجلس الوزراء، خلافاً للقرار الصادر عن الحكومة في 14 نيسان 2022 بمنع التصرف بأي دولار من حقوق السحب من دون موافقة مجلس الوزراء. وبلغت المبالغ المصروفة بكتب صادرة عن وزير المال والمجلس المركزي لمصرف لبنان في تواريخ مختلفة نحو 109 ملايين و690 ألف دولار في عام 2022، من دون العودة إلى مجلس الوزراء.
ويظهر في جدول السحوبات أن وزير المال طلب من حاكم مصرف لبنان، في كتاب يحمل الرقم 981/ص1 في 19 نيسان 2022، أي بعد 5 أيام على صدور قرار الحكومة بعدم المسّ بهذه الأموال، صرف نحو 69 مليون دولار للقوى الأمنية لتسديد ثمن المحروقات (diesel oil) المستوردة بالعملات الأجنبية المطلوبة من الاعتمادين المستنديين المفترض فتحهما من قبل منشآت النفط على أساس سعر صرف 8000 ليرة للدولار الواحد، من دون تفسير لماذا صُرف هذا المبلغ من حقوق السحب من دون عرضه على الحكومة. ويطلب خليل في الكتاب نفسه صرف نحو 352 ألفاً و958 دولاراً لتزويد القوى الأمنية أيضاً بثمن المحروقات (gasoline). وفي كتاب ثالث يحمل الرقم 598/م م، تاريخ 25 تموز 2022، وافق المجلس المركزي لمصرف لبنان، من تلقاء نفسه، على سداد 39 مليوناً و600 دولار لزوم دعم الخبز لمدة شهرين من دون المرور بالحكومة أيضاً. واستجاب سلامة وخليل لطلب وزير العدل هنري خوري، في 13 تشرين الأول 2022، بتحويل 684 ألفاً و497 دولاراً لتسديد ثمن عقد مصالحة بين وزارة العدل ومكتب محاماة فرنسي في الدعوى التحكيمية المقدّمة من شركة J&P- Avax S.A ضد الدولة اللبنانية – وزارة الطاقة والمياه. أما الحوالة المثيرة للسخرية فهي صدور قرار بالتوافق والتضامن بين خليل وسلامة بتحويل مبلغ 10 دولارات فقط لدفع عمولة لمصلحة وزارة الزراعة ACSAD!
في الخلاصة، أجاز كل من سلامة وخليل لنفسيهما التصرف بنحو 110 ملايين دولار من دون مشاورة أحد ومن دون العودة إلى مجلس الوزراء كما ينص القرار الصادر عن الحكومة. وإذا كان الحاكم السابق لمصرف لبنان ووزير المال يتحملان مسؤولية تبديد جزء من أموال حقوق السحب بطريقة عشوائية، فذلك لا يقلّل من مسؤولية رئيس الحكومة ومجلس الوزراء حيال تبديد 1.139 مليار دولار دون أي تخطيط أو رؤية واضحة في عزّ الانهيار الاقتصادي. فالخط الأحمر الذي رسمه ميقاتي في بداية وصول هذا المبلغ إلى مصرف لبنان رافضاً المس بدولار واحد من الـSDR مع وعد بصرفها على معمل للكهرباء كان لبنان في أمسّ الحاجة إليه انتهى خطاً وهمياً. كذلك الأمر بالنسبة إلى الوزراء الذين زايدوا على ميقاتي وأرادوا تمويل خطة للنقل العام، والنواب الذين توعّدوا بمحاسبة الحكومة مشترطين استخدام المبلغ لتمويل البطاقة التمويلية أو بناء معامل إنتاج كهرباء أو مشاريع أخرى ذات طابع استثماري لدعم نهوض الاقتصاد. يومها انتهت «حفلة» المزايدات إلى ضرورة التمهل في اتخاذ أي قرار باعتبار أن المسألة «حساسة» وتتعلّق بذخيرة الدولة المتبقية في أيامها الصعبة.
لكن سرعان ما بدأ كل وزير يقدّم اقتراحاً لإنفاق جزء من حقوق السحب وفق ما يراه أولويات، فيحصل على توقيع مجلس الوزراء لصرفها. هكذا، بُدّد 548 مليون دولار على استيراد الأدوية التي لم يُعرف من استفاد منها، و117 مليون دولار على استيراد القمح و167 مليون دولار على الكهرباء و200 مليون دولار على تسديد قروض مستحقة كاشتراكات لمؤسسات دولية، و14.5 مليون دولار على إصدار جوازات سفر و7 ملايين دولار على أشغال عامة و20 مليون دولار على المطامر الصحية وشبكات الطرق، و17 مليون دولار أشغالاً في مطار رفيق الحريري، و6.3 ملايين دولار لمنشآت النفط في طرابلس و100 ألف دولار لمكافحة حشرة السونا، علماً أن بعض المبالغ التي وافق مجلس الوزراء على صرفها لم يسددها وزير المال بالكامل، بل دأب أحياناً على الاقتطاع منها من دون معرفة السبب، لينتهي الأمر بصرف حكومة ميقاتي ووزارة المال وسلامة نحو 1.1 مليار دولار في غضون عامين مقابل «دعم» لم يصل إلى مستحقيه. وثمة شبهات حول استفادة مجموعة من المتموّلين النافذين من تلك المبالغ، وهو ما يفترض أن يكون محور تدقيق من ديوان المحاسبة نظراً إلى إحالة لجنة المال والموازنة في تشرين الأول 2023 ملف حقوق السحب الخاصة إلى الديوان لوجود مخالفات فيه، من فتح حسابات خاصة في مصرف لبنان إلى عدم العودة إلى مجلس النواب لقوننة الإنفاق.