هل أرقام بوشكيان دقيقة وصحيحة؟ الصناعة ليست بخير

في مطلع الأسبوع الماضي، أصدر وزير الصناعة جورج بوشكيان، بياناً يشير فيه إلى التطوّر الذي شهده القطاع الصناعي خلال السنوات الماضية. ركّز بوشكيان بشكل خاص، على ارتفاع مساهمة القطاع في الناتج المحلّي لتُصبح ما بين 37% و41%، مشيراً إلى ارتفاع حصّة المنتجات المحليّة لتُشكّل نحو 67% من السوق بعدما كانت تُشكّل ما بين 11% و17%. ثمة الكثير من الشكوك في صحّة ودقّة هذه الأرقام التي وردت في بيان بوشكيان ولم يعلّق عليها أي مختصّ أو خبير، وبالتوازي لم تتبنَّها نظراً إلى غياب الأرقام الدقيقة حتى الآن أيّ من المؤسسات الرسمية التي تصدرها، فهل هناك مؤشرات أو أدلّة على صحّة أرقام بوشكيان؟صحيح أن القطاع الصناعي استفاد بشكل محدود من الأزمة بسبب عوامل عدّة، منها انهيار الليرة وانخفاض بعض الأكلاف، إلا أنه في المقابل، لم تقم الدولة بأي خطوة تُسهم في الاستفادة من العوامل التي فرضتها الأزمة رغم أنها تشكّل فرصة نادرة لتنمية قطاعات كانت مُهملة في السابق. فصعود القطاع الصناعي لا يمكن أن يتم من خلال ترك الأمور تسير على هوى هيمنة السياسات النقدية التي استعادها المصرف المركزي من خلال الأدوات الضريبية بدلاً من أدوات السوق المالية، علماً أنه لا يمكن إغفال وجود تحسّن ما في القطاع الصناعي الذي صار أكثر جذباً للمستثمرين، إنما السؤال الأساسي، هل بلغ التحسّن الحدّ الذي يشير إليه بوشكيان رغم كل العوامل المعيقة لنمو هذا القطاع والتي لم تتم مواجهتها والتعامل معها من قبل الدولة طوال فترة الأزمة؟

حالياً، يمكن القول إن الصناعة ليست بخير. وهذا ينطبق على أحد أهم القطاعات الصناعية في البلد، هي الصناعات الغذائية، التي تُشكّل أكبر عدد من المؤسّسات الصناعية وتُشغّل أكبر عدد من الموظفين، بحسب رئيس نقابة الصناعة الغذائية منير البساط. يقول البساط إن قطاع الصناعات الغذائية يعاني من مشاكل عدّة، أهمّها: «مشكلة التمويل، إذ يحتاج القطاع الصناعي، وخصوصاً الصناعات الغذائية، إلى دورة تمويل طويلة، لأن الفترة بين شراء المواد الأوّلية والمبيع تكون كبيرة في العادة، وهو ما يجعل القطاع بحاجة إلى وجود مصادر تمويل». المشكلة هي أنه منذ بداية الأزمة، انهار القطاع المصرفي، وهو مصدر التمويل الطبيعي في النظام الاقتصادي الذي ينتهجه لبنان، ومع غياب التمويل تُصبح القدرة على توسّع المصانع أقل، وتُصبح هذه القدرة حكراً على أصحاب المصانع الكبار القادرين على تحمّل أعباء التمويل بأنفسهم، علماً أن التمويل من خلال رأس المال الخاص هو أحد أكثر طرق التمويل «كلفةً» على المؤسّسات، إذ تُفضّل الشركات والمؤسسات الحصول على تمويلها من خلال الاقتراض، لأن ذلك يُشكّل مخاطر أقلّ. كذلك يشير البساط إلى مشكلة ثانية، وإن كانت ظرفية، إذ إنها تتعلق بصعوبة الإبحار في البحر الأحمر. مشكلة كهذه «تؤخّر استيراد المواد الأولية القادمة من شرق آسيا، وتؤخّر التصدير إلى دول الخليج».

من ناحية أخرى، استفادت الصناعة المحليّة في بداية الأزمة، وكان هذا الأمر طبيعياً بسبب العوامل التي أدخلتها الأزمة إلى السوق اللبنانية. وبالنتيجة، كانت للمنتجات المحليّة حصّة أكبر من السوق بعد الأزمة، كما يقول البساط، إذ إن «انهيار القدرة الشرائية أدّى إلى تأخّر استيراد البضائع الأجنبية، وهو ما وضع المستهلك اللبناني أمام خيار المنتج المحلّي الذي استطاع أن ينال رغبة المستهلك، وهذا ما أسهم في زيادة حصّة هذه المنتجات». لكنّ هذا الأمر غير كافٍ، كمؤشّر، للإقناع بأن الصناعة أصبحت تُشكّل 37% إلى 41% من الإنتاج المحلّي. فهذا الرقم يعني أن الصناعة أصبحت أكبر قطاع في البلد. ولتُصبح الصناعة بهذا الحجم، تحتاج إلى قرار دولة بأكملها تقوم بتهيئة الظروف ليصبح هذا القطاع قادراً على احتلال جزء كبير من الناتج المحلّي، فضلاً عن أن هذا الأمر لا يظهر بسهولة وبلا مشاكل، ولا يظهر بهذه السرعة أيضاً. يُعطي الاقتصادي ألبر داغر مثالاً على هذا الأمر من خلال استذكار التجربة الإيرانية في قطاع السيارات. فعندما أشهرت شركة «تالبوت» البريطانية إفلاسها، أقنع وزير الصناعات الثقيلة آنذاك بهزاد نبوي، رئيس الحكومة مير حسين موسوي، بشراء آلات الشركة، وكانت هذه الخطوة مقدّمة لإعادة تطوير قطاع المركبات المدنية. وأُنشئ حينها إحدى عشرة شركة لإنتاج قطع غيار للآلات التي تم شراؤها. وبعدما أتى الرئيس رفسنجاني وحاول بسياساته النيوليبرالية فتح السوق أمام الاستيراد، شكّل هذا الأمر خطراً على الشركات المحليّة، لكن أزمة العملات الصعبة التي تسببت بها سياسة إباحة الاستيراد، كان لها دور مهم في إعادة الاعتبار لفكرة تطوير الإنتاج المحلي. وتعود جذور ذلك إلى عام 1992 حين اعتُمدت سياسة دعم الصناعات الناشئة عبر رفع الرسوم الجمركية التي أوقفت استيراد السيارات الأجنبية. وعلى امتداد الحقبة اللاحقة طُوّر هذا القطاع، وتولّت شركتان حكوميتان هما إيران خضرو وسايبا إنتاج خمس ماركات مختلفة من السيارات بالتعاون مع شبكة واسعة من منتجي قطع الغيار المحليين قوامها 800 شركة، ومع آلاف المهندسين المتخصّصين في تصميم المركبات، الذين يعملون في مؤسسات الدولة البحثية.

ما يحاول داغر قوله من خلال استذكار هذه الحالة هو أن صعود القطاع الصناعي يحتاج إلى جهود دولة كاملة. لذا، إن وجود عوامل طبيعية جرّاء الأزمة التي اجتاحت البلد في عام 2019 لا يكفي لأن يُصبح هناك قطاع صناعي يطغى على باقي القطاعات في البلد. ويقول داغر إن القطاع الصناعي استفاد من انخفاض كلفة اليد العاملة جرّاء الأزمة، والتي لم تتعافَ أجورها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة حتى بعد التصحيحات المتتالية للأجور. ويلفت إلى أن المؤسسات الصناعية التي قامت بالاعتماد على الطاقة البديلة للتشغيل استفادت من هذه الاستثمارات في خفض كلفة الطاقة عليها، «وهذان عنصران مهمان، يمكن أن يشجّعا من هم في القطاع للاستثمار أكثر فيه»، لكن «على المستوى النظري هناك انخفاض في عناصر الكلفة، بالإضافة إلى القدرة على التسعير من دون رقابة، وهو ما يمكن أن يُشكّل مصدراً لزيادة الأرباح بشكل كبير، إنما في الوقت عينه قد تكون هناك عراقيل لا نعرفها». فالمشكلة بحسب داغر، أن الدولة لم تقم بأي إجراءات لتطبيق سياسة صناعية تستطيع أن تُنظّم القطاع من خلال «حماية الصناعة ودعمها».

بشكل عام، يحتاج هذا الأمر إلى قرار دولة، وهو قرار لا يتعلّق فقط بالقدرة التقنية أو المادية، بل يحتاج إلى قرار سياسي يواجه العقد التي يُشكّلها هيكل الاقتصاد السياسي في البلد، الذي استفاد على مدى العقود الماضية من النظام الريعي غير المنتج، وحقّق بسببه ثروات هائلة.

إن تغيير هيكلية الاقتصاد السياسي يحتاج إلى معركة بحد ذاتها، وهذا الأمر غير قابل للتطبيق مع الشكل الحالي للدولة التي يستفيد الأطراف المشاركون في حكمها من نظامها الريعي.

 

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقةاتحادات ونقابات قطاع النقل البري طالبت وزير الداخلية وضع يده على ملف النافعة ورحبت باعادة تسيير النقل المشترك
المقالة القادمةانتعاش في رخص البناء الجديدة؟