هل تفتح سدود “خزان مياه الشرق الأوسط” أمام طوفان التحقيقات وتغرق منفذيها بالعدل وتعيد المال المنهوب الى الدولة اللبنانيّة؟

ساعتين من الوقت أمام قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار، مثل وزير الطاقة والمياه السابق وليد فياض، وغادر بعدها قصر العدل مع امكان دعوته للاستماع إليه مجدداً، في قضية تشوبها الكثير من الشبهات منذ بدء تنفيذها الفاشل بشكل فاضح للقاصي والداني، سدود مجموعها يتجاوز ال 23 سدا على كل الأراضي اللبنانية، من بينها سد المسيلحة الذي من الممكن أن يفتح باب التحقيقات حول الفساد والهدر في المال العام.

الموضوع لم يتوقف عند الساعتين، فالقاضية نصار ستطلب لاحقاً الاستماع إلى وزراء الطاقة السابقين كافة كشهود على سبيل الاستئناس، ما يعني وبحسب القانون ان لا مانع من الادعاء عليهم في مراحل لاحقة استكمالاً للتحقيق، محددة تاريخ الثامن من الشهر المقبل موعدا لجلسات الاستماع والاستجواب.

يشار إلى أن القاضية سمرندا نصار هي قاضي تحقيق اول في الشمال، وتم تعيينها منذ عام 1990 في مراكز قضائية متعددة، وعضو في الجمعية العامة للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية برئاسة اللبنانية الأولى السيدة نعمت عون، وتملك اجازة في الحقوق ودراسات عليا في الديبلوماسية والمفاوضات الاستراتيجية، استاذة ومحاضرة في جامعة الحكمة، وفي رصيدها دراسات قانونية متعددة في القانون الجزائي والمدني، وقد تابعت دورات تدريبية متعددة في التحقيقات الجزائية وادارة مسرح الجريمة ومكافحة الارهاب، وخبيرة في الجرائم المنظمة الدولية والعابرة للحدود.

لا شك، أن سد المسيلحة قد يشكل المثال الأوضح حول كيفية هدر المال العام، فالسد الذي لم يتمكن من حفظ الماء، تحول إلى منطقة مهجورة تربى الصيصان فيه، وبالتالي تحول السد من مشروع استراتيجي إلى مزرعة دجاج. القاضية نصار ادعت على الشركة الايطالية التي نفذت المشروع، ومعها الشركة الفرنسية التي قدمت الاستشارة الهندسية، بجرم تبييض الاموال وهدر المال العام .

يذكر ان القاضية نصار قررت العام الماضي ختم سد المسيلحه بكامل مداخله بالشمع الأحمر، كما مكاتب الإدارة، والمبنى المهجور الذي كان يفترض أن تتولى تنفيذه شركة معينة، وادعت على الأطراف المعنية من خلال ممثليها القانونيين.

أرض لبنان غير صالحة لإنشاء السدود

ملف السدود المائية في لبنان هو واحد من أكثر الملفات إثارةً للجدل، حيث تتفاوت الآراء حياله بين مؤيد ومعارض، فالبعض يناصر بناءها والبعض يراها لزوم ما لا يلزم، نتيجة عدم إنجاز الكثير منها بالشكل المطلوب عازيًا فشلها، إلى فساد المسؤولين عنها وعدم التخطيط الكافي، إضافة إلى الآثار البيئية الناجمة عنها.

الخبير الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي أكد أن “أرض لبنان غير صالحة لإنشاء السدود لأسباب عديدة، البعض منها نابع من طبيعة الطبقات الجيولوجية التي لا تجمع المياه، ومنها ما يرتبط بمسألة القضاء على التنوع البيئي والبيولوجي، ناهيك بالتكلفة العالية وعدم ديمومة الموارد الناجمة عن هذه السدود”، مشيراً إلى أن الهدف من تشييد معظم السدود هو تحقيق الأرباح لجيوب المتعهدين والمنتفعين”.

وأكد أن “سياسة السدود هي سياسة قديمة تنطلق من فلسفة مفادها بأن الماء هي مصدر الطاقة الكهربائية – الكهرمائية، واعتمدت في أوروبا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وتم نشرها في المناطق من أجل تخزين المياه وعدم وجود مياه جوفية”، لافتاً إلى أن “الدراسات العلمية كشفت عدم نجاعة هذه السياسة بسبب التكلفة العالية، والعثور على طرق جديدة لتوليد الكهرباء والانتقال إلى الطاقة النووية والشمسية والرياح وغيرها”.

يشار إلى أن التحقيقات التي تجريها القاضية نصار تدقق في الطبيعة الجغرافية لارض سد المسيلحة، واذا كانت تلك المنطقة تسمح بانشاء سدود فيها، وبخاصة ان كبريات الشركات الاستشارية ومنها من اشرف على بناء قناة السويس، تخوفت من تسريبات في سد المسيلحة ولم تحبذ انشاء السد هناك.

وأكد زعاطيطي أن “المشي عكس الطبيعة لا يؤدي إلا إلى الفشل”، مضيفاً “مع ظهور التشققات الكبيرة في سد بقعاتة كنعان وفي سد المسيلحة، لجأ القيمون عليها إلى سد الثغر بالإسمنت وطليها بمواد كيميائية مصنعة، تتفاعل مع المياه والشمس وتؤدي إلى تلويث المياه والتربة في آن معاً، وتؤثر في المواطنين الذين يستعملون المياه، ولا بد من الإشارة إلى انخفاض مستوى بحيرة المسيلحة بنسبة متر ونصف المتر خلال أقل من شهر بحسب مراقبين، ما يؤكد أن الشقوق عادت لتتكسر من جديد”.

جيولوجية الأرض المتشابهة

ويرى رئيس الحركة البيئية اللبنانية بول أبي راشد أن “المشترك بين معظم السدود في لبنان، هو جيولوجية الأرض المتشابهة أي أنها متشققة كاريستية، تتسرب منها المياه عند التجميع”، مستشهداً بسد بلعة في البترون “الذي تبين بعد 6 سنوات أن الأرض مشققة، فتحولت الأراضي المجاورة إلى مقالع وكسارات لسد هذه الشقوق، كما تبين أن سد بقعاتا في الشوف لا يجمع المياه لأن الأرض تسرب المياه”.

من جهته، أكد الباحث في الجيولوجيا في الجامعة الأميركية طوني نمر، أن سد المسيلحة يرتفع 45 مترا عن سطح البحر، والهدف منه ري قرى قضاء البترون التي هي أعلى منه أصلاً، مع فقدان عامل الجاذبية لجر مياه السد الى وجهتها، ومع ندرة الكهرباء في لبنان لنقل المياه بواسطة المضخات، السد فاشل حكماً”، وأضاف “سد بلعة قائم في منطقة بواليع طبيعية، استوجبت أعمالاً بتكاليف باهظة لتسكيرها، في حين أن سعة خزان السد بعد التعبئة هي 1.5 مليون متر مكعب فقط، اختيار الموقع غير موفق على الاطلاق، والجدوى الاقتصادية غير موجودة”. أما عن سد بسري فأكد أنه “مصمم ليبنى على ملتقى فالقين زلزاليين (فالق بسري وفالق روم) حيث نقطة ارتكاز زلزال 16 أذار 1956 بقوة 5.8 درجات، الموقع خطر جداً من حيث امكان تحفيز مياه السد للحركة الزلزالية على الفوالق الموجودة”.

يذكر أن الحكومة اللبنانية عام 2012 أقرت الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه، التي حملت شعار “حق لكل مواطن وثروة لكل الوطن”. وتضمنت الخطة إنشاء وتأهيل مجموعة من السدود والبحيرات، بتمويل من الدولة اللبنانية والقروض ومشاركة القطاع الخاص، واعتمدت بشكل عام على السدود في مختلف المناطق اللبنانية، وحددت موازنة تقديرية 859 مليون دولار لمحافظة جبل لبنان، 488 مليون دولار لمحافظة الشمال، و300 مليون دولار لمنطقة الجنوب، و328 مليون دولار محافظة البقاع، وحسب جداول وزارة الطاقة، فإن تكلفة سد “المسيحلة” مقدرة بـ55 مليون دولار، كما تم تخصيص نحو ثلاثة ملايين دولار أميركي من اجل تأهيل سد “بريصا”.

ملف مُثير للجدل

يعد ملف السدود المائية في لبنان واحداً من أكثر الملفات إثارةً للجدل. فجمعية “الارض” أكدت أن “السدود هي مصدر للمشاكل وليست حلا، وتساهم في تفاقم أزمة التغير المناخي، من خلال تدمير الأراضي الحرجية وانبعاث غاز الميثان المسبب للاحتباس الحراري، كما أنها تعيق جريان الأنهار، وتمنع وصول الأسماك والرواسب والمغذيات إلى البحر، وتساهم في تدهور نوعية مياه الأنهار، وإبطاء سرعتها، وارتفاع درجة حرارتها، مما يؤثر سلبا في البيئة النهرية، ويؤدي إلى تدهور التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية المحلية”.

الفرنسيون وصفوا لبنان بأنه خزان مياه الشرق الأوسط، نظراً لغناه بالمياه الجوفية المتجددة، وفي هذا السياق، أكد زعاطيطي، بحسب للـ UNDP من عام 1970، والذي تم تحديثه ونشره عام 2014 الذي يشير إلى أن “لبنان لديه فائض بالمخزون الجوفي، حيث يتساقط في لبنان 10 مليار م3 من المتساقطات سنويا، 3 مليار منهم يخزن داخل صخورنا و1.3 مليار م3 فقط هي المياه على وجه الأرض أي الينابيع والأنهار والتي هي ملوثة بنسبة كبيرة، لذلك يجب الاستثمار في المياه الجوفيّة”، متسائلا “لماذا نعمل على الربع الملوث؟ لأن الآبار ليست مربحة”. فمثلاً، قد يؤمن بئران مدروسان بكلفة 200 ألف دولار أكثر من 5 ملايين متر مكعب سنوياً، وهي الكمية التي نادراً ما يؤمنها سد بكلفة 100 مليون دولار“.

من جهته، أشار أبي راشد إلى أن ” نهر الأردن ينبع من لبنان وفائض المياه الجوفية يذهب إلى فلسطين والأردن، كما أن فائض مياه لبنان الجوفية يذهب إلى تركيا مروراً بسورية عبر نهر العاصي الغزي، ولبنان لديه كل عام 3 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية المتجددة، بفعل الشتاء وذوبان الثلوج”، وأضاف “من هنا نجد أن لبنان لا يستفيد من مياهه الجوفية بالشكل المطلوب، وإنما توجه نحو السدود التي لا حاجة إليها من الأساس”، ويسأل أبي راشد: “هل قيمنا المياه الجوفية قبل بناء السدود؟ طبعاً لا”.

وأكد أبي راشد “على ضرورة التمييز بين الآبار الجوفية المتجددة وبين المخزون الإستراتيجي، فالأولى هي في الطبقات القريبة من قشرة الأرض وتتجدد كل سنة بفعل المتساقطات وذوبان الثلوج، أما الثاني فهو في أعماق الأرض وتشكل بفعل الزمن ويصعب تعويضه”، ويضيف: “عندما نتكلم عن المياه الجوفية، نقصد المتجددة وليست الإستراتيجية، والتذرع بحجة أن استخدام المياه الجوفية هو استنزاف للمخزون الإستراتيجي، إنما الهدف منه ذرالرماد في العيون، للتغطية على مشاريع السدود الفاشلة”.

مصدرالديار - ربى أبو فاضل
المادة السابقةحاكميّة “المركزي” رُحِّلت لما بعد زيارة لودريان… 3 اسماء بالصدارة
المقالة القادمةالصين ترحب بالشركات الأجنبية للمشاركة في تنمية البلاد