لم يعش لبنان منذ فترة طويلة ظروفاً طبيعية، فالتداعيات السلبية لعدم الإستقرار إنعكست على مجمل ظروفه السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية وحتى الأمنية، وهذا ما يترك إنطباعات كثيرة لدى اللبنانيين «بأننا في بلد يفتقد للإدارة، ومؤسساته رهينة الترهّل والإنحلال، بدءاً من أعلى الهرم السياسي وصولاً إلى أصغر دائرة تعنى بالخدمة العامة». ومع ذلك ثمّة بارقة أمل كانت قد بدأت تلوح في الافق أخيراً، من خلال جهود إسترعت إهتمام الرأي العام اللبناني، بذلتها الهيئات التي تعنى بالرقابة على المؤسسات العامة، وخصوصاً من خلال ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام.
أعادت الهيئتان الرقابيتيان الدينامية لمبدأ المحاسبة، على رغم ظهور هذه المحاسبة كجزء من الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على لبنان لمساعدته في النهوض من أزمته المالية والإقتصادية. وعليه، إستبشر الكثيرون بإعادة تصويب أهداف صفقات تلزيم المرافق التابعة للإدارات والمؤسسات العامة، لتصب مجدّداً في مصلحة المواطنين وخزينة الدولة، بدلاً من تسرّب أرباحها إلى جيوب سماسرة العهود وأزلامها.
لا بل ذهبت طموحات كثيرين إلى التأمّل بمحاسبة تطال المعنيين بالسلطة على إرتكاباتهم السابقة واللاحقة، كما حصل مثلاً من خلال إعادة فتح ملفات شركات الإتصال الخلوية ومبانيها المستأجرة والمملوكة من خارج معايير الشفافية، أو ملف شركة INKRIPT المتعهّدة لخدمات إصدار رخص السوق والسيارات وخدمات أخرى تقدم عبر هيئة إدارة السير والمركبات الآلية، أو ملف مطار رفيق الحريري الدولي، وصفقاته القديمة والحديثة، ومن بينها صفقة تلزيم الـTERMINAL 2 وصفقة تلزيم خدمة المطاعم والمقاهي وغيرها، وملف علاقة إدارة المطار مع الجامعة اللبنانية، وملف شركة «فال» التي هيمنت على خدمة الكشف الميكانيكي لسنوات طويلة، وملف البريد وإلتزاماته التي لم تتطابق مع المعايير القانونية، وملفّ خدمة الـA2P الخاصة بشركتي الخلوي، وغيرها من الملفات التي أراح وضعها تحت مجهر الهيئات الرقابية الرأي العام، أو أقلّه الجزء الطامح منه للمحاسبة.
الحرب عامل سلبي
غير أنّ ظروف الحرب مجدّداً، تبدو كعامل سلبي قاس قد يخطف وهج هذه البارقة، كنتيجة لتراجع إهتمام اللبنانيين بهذه الملفات خلال الأزمات، ليطغى الهمّ المعيشي والأمني. إلا أنّ المقلق هو محاولة البعض إستغلال هذه الظروف كثغرة تسمح بتمرير صفقات كثرت الشكوك حول شفافيتها. وما يحصل في ملف تلزيم البريد ومحاولة تمريره على رغم الملاحظات القانونية التي وضعت عليه من خلال الهيئات الرقابية، قد يبدو مثلاً واحداً على ذلك، إنما بالتأكيد هناك أمثلة أخرى كثيرة، تكشف المحاولات لجعل الحرب شمّاعة تعلّق عليها الإخفاقات، كوسيلة للحفاظ على «الستاتيكو» غير السويّ القائم في تسيير شؤون الإدارة اللبنانية، وهذا ما يجعل من دور الهيئات الرقابية في فترات «الشدة» أكثر أهمية منه في فترات السلم والإطمئنان.
ولكن العاملين في الهيئات الرقابية ككل المؤسسات، هم «من لحم ودم»، هؤلاء أيضاً يتأثرون بالجو العام، ومن الطبيعي أن تنعكس الظروف القائمة على حماسهم في العمل. وبحسب مصدر مسؤول في ديوان المحاسبة خلال دردشة مع «نداء الوطن»، فإنّ الكل في لبنان تحوّل حالياً إلى وضعية محاولة النجاة أو ما يعرف بالـSURVIVAL MODE، ومن بينهم القضاة ومساعدوهم المسؤولون في الديوان وغرفه الناظرة بالملفات، الذين هم أيضاً لديهم أولاد وعائلات يخافون عليهم وعلى مستقبلهم. وبالتالي، من الطبيعي أن تتحول الأولويات إلى مكان آخر. ومن هنا يعتبر بأنّ الحرب في غزة والخوف من تطوراتها التي قد تؤدي إلى إنزلاق لبنان، أخذت كل الإهتمام، حتى الرأي العام سيتراجع حماسه للملفات المفتوحة، على رغم أهمية تأثيرها على مستقبله والذي قد يوازي أحياناً نتائج الحرب.
ومع ذلك، يعتبر المصدر القضائي «أنّه من الطبيعي أن تستمر محاولات دفع الأمور إلى الأمام من قبل من يتحملون مسؤولية الإدارة العامة والحفاظ على المصلحة العامة، وفي طليعتها الهيئات الرقابية. والأمل بأن لا تطول هذه المرحلة، وتصبح الأمور أوضح حتى تستعيد هذه الهيئات إندفاعها لمتابعة الملفات التي بين أيديها». ويوضح أنه «بالنتيجة، إذا بقي الحال على ما هو عليه ولم يتطور دراماتيكياً، الكل سيتأقلم مع الستاتيكو الجديد، ويحاول المتابعة من المكان الذي وصل إليه».
من جهته، يقرّ رئيس هيئة الشراء العام جان العلية أنّ «الجو السائد حالياً ليس الأمثل للحفاظ على الإندفاع الذي أظهرته الهيئات الرقابية في متابعة الملفات والتدقيق فيها». وإذ يرى في حديث مع «نداء لوطن» أنّ «التأثر هو من صلب الطبيعة البشرية، بحيث لا يمكن فصل كل إنسان من لحم ودم عن محيطه»، يعتبر في المقابل «أنّ من متطلّبات الصمود أن يقوم كل إنسان بدوره».
بحاجة لكل قرش
بالنسبة للعلية «نحن نمرّ حالياً في أجواء حرب»، من دون أن يعطي توصيفاً سياسياً لما يمرّ به لبنان. وبرأيه أنّه «في حالة الحرب يفترض بكل إنسان أن يتحمّل مسؤوليته ليخدم وطنه بحسب الدور الذي يناط به. ولا بدّ من ضمان إستمرار تأمين الخدمات العامة، لأنّ المواطن في هذه الظروف أحوج ما يكون لذلك. أما دور الهيئات الرقابية فهو أن تحافظ على المال العام، ونحن نعلم أننا بحاجة الآن لكل قرش من هذا المال».
وبالتالي يقول العلية إنّه «حتى لو كان العاملون في الادارات يعانون الضغوطات النفسية، ويخشون نتائج الحرب، فهذا هو عملنا الذي نخدم من خلاله وطننا. والأولويات تبقى موجودة بالنسبة للإدارات بحسب إختصاصاتها. أما بالنسبة لنا كهيئات رقابية، فالملفات التي تعنى بتسيير العمل اليومي في الإدارات، تبقى أولوية لتستمر الإدارة بتسيير أمور المواطن، وهناك ملفات لها تأثير على المال العام وهي أيضاً أولوية».
لبنان بحاجة كما يقول أحد المعنيين في الإدارة العامة لأن يحكم بحسّ وطني، وهذا الحسّ لا يمكن أن يترجم إلا من خلال سلطة تظهر قدرة على الإمساك بملفاتها وإدارتها بما تقتضيه المصلحة العامة. أما في حالة غياب القانون وسلطة الدولة، فيبقى التعويل على الأفراد وضمائرهم في ممارسة مهماتهم.
في معرض حديثه عن أهمية الحسّ الوطني في بناء المجتمعات، وخطورة غيابه الذي قد يتسبّب بهدم المجتمعات وتشويهها، يشير أحد المعنيين إلى طرق نمو بعض المدن والقرى اللبنانية خلال فترة الحرب، بحيث يمكن التمييز بين المدن والقرى التي أديرت بمسؤولية وتحت مظلة القانون، وتلك التي شجّعت فيها قوى الأمر الواقع، العشوائيات، فأساءت إلى مجتمعاتها أولاً. وهنا تحديداً يرى اللبنانيون خطورة الحرب، أو تهديداتها الدائمة، التي جعلت بلدهم يتخلّف عشرات الأعوام، حتّى عن أقرب الدول المجاورة له.
لعدم انتظار الظروف
إنطلاقاً من هنا، يحاول بعض من لا يزالون يؤمنون بسلطة القانون والمحاسبة، أن لا يسمحوا للحرب ومستغلّيها بأن يحبطوا عزيمتهم على الإصلاح. برأي هؤلاء إن «التجربة في لبنان، يجب أن تكون قد علّمتنا بأن لا ننتظر الفرصة أو الظرف الملائم. فالإنتظار يعني التخلّف، بينما التجارب الخاصة تظهر بأن المشاريع والإستثمارات التي غامر من خلالها أصحابها في فترات الحرب، حصدت نتائجها لدى إنتهائها». وبالتالي يعتبر هؤلاء «بأن إلتقاء الإرادات الجيدة لدى بعض من يديرون الشأن العام في فترات الشدّة، لا بد من أن يثمر نتائج تصبّ في المصلحة العامة عندما نصل إلى مرحلة السلم. وهذا ما يجب أن نسعى إليه بشكل دائم».