الشيء الوحيد الذي تبغضه بكين في العالم هو هيمنة الدولار الأميركي، وتعمل الصين منذ أكثر من عقد لتقويض دوره في التجارة والاستثمار العالميين. لكنّ محللين قالوا إن رغبة الصين في إزاحة الدولار الأميركي باعتباره العملة الأساسية الرئيسية “قد لا تتحقق” في أي وقت قريب، على الرغم من ضعفها أخيراً.
وبالنسبة إلى كثيرٍ من المستثمرين الدوليين، خصوصاً البنوك المركزية التي تدير الاحتياطيات الأجنبية، فإن الاحتفاظ بالدولار الأميركي يعني الاحتفاظ بسندات الخزانة الأميركية. وفي حالة الصين، أظهرت أحدث الأرقام أن 58 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي بنهاية عام 2015 كانت محتفظة بالدولار الأميركي، حسب صحيفة ساوث تشاينا مورننغ بوست.
وأصبح انزعاج الصين من الدولار أكثر حدة أخيراً مع تحرّكات واشنطن لمعاقبة المسؤولين الصينيين وهونغ كونغ، مع التهديد أيضاً بمعاقبة المؤسسات المالية التي تتعامل مع هؤلاء الأفراد، بمن في ذلك الرئيس التنفيذي لهونغ كونغ كاري لام تشينج.
ولا يزال الدولار الأميركي هو المهيمن بقوة، ما يترك للصين خيارات قليلة للرد. وفي سيناريو متطرّف، يمكن للولايات المتحدة أن تمنع الشركات والبنوك الصينية من الوصول إلى نظام الدفع بعملتها، ما يعطّل بشكل خطير تدفقات التجارة والاستثمار عبر الحدود في الصين.
كما أن الصين غير راضية عن “الامتياز الباهظ” الذي تتمتع به واشنطن، بسبب دور الدولار الأميركي كعملة احتياطية دولية رئيسة، لا سيما عندما ينخرط مجلس الاحتياطي الفيدرالي في التيسير النقدي، لمعالجة المشكلات الاقتصادية المحلية للولايات المتحدة، كما فعل هذا العام.
والتوقعات المستقبلية للعملة الصينية لتحل محل الدولار الأميركي بعيدة المنال، إذ تبلغ حصة اليوان في احتياطيات البنوك المركزية العالمية نحو اثنين في المئة فقط، ربعها تملكه روسيا، وتشجّع موسكو بكين على أن تكون أكثر حزماً في تحدي دور واشنطن المهيمن في الاقتصاد العالمي.
وكانت الصين قد حذّرت من الاستعداد للانقطاع عن نظام الدفع بالدولار الأميركي، كجزء من العقوبات مثل روسيا. في وقت حققت جهود الصين للابتعاد عن فلك الدولار نتائج محدودة حتى الآن.
التيسير الكمي والجدارة الائتمانية للدولار
وتنظر بكين إلى التحرّكات النقدية الأخيرة للاحتياطي الفيدرالي الأميركي على أنها طريقة لتحويل تكلفة مشكلاتها المحلية إلى دول أخرى، بما في ذلك الصين، من خلال جمع سندات الخزانة، وهو شكلٌ من أشكال الربح الذي يحققه مصدر العملة من الأشخاص الذين يستخدمونها. كما حذر قوه شو تشينغ، رئيس لجنة تنظيم البنوك والتأمين الصينية، أن التحفيز غير المسبوق “قد يغرق العالم في أزمة مالية عالمية أخرى”.
وكتب في مقال، نُشر بصحيفة الصين الرسمية “غوشي”، “في نظام نقدي دولي يهيمن عليه الدولار الأميركي، فإن سياسة التيسير الكمي غير المسبوقة وغير المحدودة التي تنتهجها الولايات المتحدة تستهلك في الواقع الجدارة الائتمانية للدولار، وتقوّض أسس الاستقرار المالي العالمي”.
تضخم الميزانية العمومية الأميركية
وتأتي مخاوف قوه شو، بعد أن قدّمت الولايات المتحدة تريليونات من الدولارات الأميركية من الحوافز، لتعزيز الاقتصاد في مواجهة أزمة فيروس كورونا. وتسببت برامج الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لشراء الأوراق المالية وضخ الأموال في النظام المالي، ما يسمى بالتيسير الكمي، في تضخم ميزانيته العمومية من أربعة تريليونات دولار أميركي في منتصف مارس (آذار) إلى ما يقرب من سبعة تريليونات دولار أميركي في أغسطس (آب).
وأدّى ضعف الدولار الأميركي في الأشهر الأخيرة، مع فقدان مؤشر العملة الخضراء نحو 11 في المئة منذ ذروته في أواخر مارس، لا سيما مقابل اليورو، إلى زيادة المخاوف في بكين بشأن أصولها الخارجية واحتياطياتها التي تزيد على تريليون دولار أميركي، وهي مقوّمة بالدولار الأميركي، ما سيخفّض قيمتها.
وأدّى تخفيف الفيدرالي الأميركي، إلى جانب الانكماش الشديد في نمو اقتصاد البلاد، إلى دفع بعض الاستراتيجيين، بما في ذلك بنك الاستثمار العملاق غولدمان ساكس، إلى التحذير من أن السياسات المالية والنقدية الأميركية قد تثير مخاوف من “تدهور العملة”، وخسارة قدرتها على الحفاظ على قيمة الاستثمارات.
الدولار القوة المهيمنة في أسواق الصرف الأجنبية
من جانبه، أكد بنك غولدمان ساكس، حسب الصحيفة، أن هذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى تآكل حكم الدولار الأميركي، باعتباره القوة المهيمنة في أسواق الصرف الأجنبية العالمية، لأن الكميات الهائلة من السيولة بالدولار الأميركي في النظام المالي قد تؤدي في النهاية إلى “ارتفاع التضخم” بمجرد انتهاء الوباء.
ومع ذلك، كثيرٌ من المحللين يرون أن وضع الدولار الأميركي من غير المرجّح أن يتغير على المدى القريب، بسبب عدد من المزايا التي لا يمكن للعملات الأخرى أن تضاهيها بعد.
وتبقى التحذيرات من زوال الدولار ليست جديدة، مع الجدل حول ما إذا كان التحفيز الاقتصادي سيؤدي في النهاية إلى استمرار التضخم منذ الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من عقد من الزمان.
وقبل تفشي جائحة فيروس كورونا، كان هناك قلق بشأن الدولار الأميركي، بسبب العجز التجاري الضخم والمالي الذي تراكمت عليه الولايات المتحدة. وبين عامي 2003 و2014 كان مؤشر الدولار أقل من مستواه الحالي، وأحياناً أقل بكثير.
الصين وتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي
في الوقت نفسه، بدأت الصين اتخاذ إجراءات، لتقليل اعتمادها على الدولار بعد الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009، إذ شجّعت بكين على استخدام اليوان في الصفقات العابرة الحدود، ومع ذلك، نظراً إلى أن اليوان غير قابل للتحويل بحرية، فهو بعيد كل البعد عن البديل عن الدولار الأميركي.
كما طرح محافظ البنك المركزي السابق تشو شياوشوان، فكرة استخدام حقوق السحب الخاصة، وهي وحدة محاسبية في صندوق النقد الدولي، لاستبدال وظائف معينة للدولار الأميركي، على الرغم من أن الصين اتخذت خطوات قليلة للترويج لها. والشركات في العالم الحقيقي تستخدم الأصول.
وكتب محافظ بنك الشعب الصيني الحالي يي جانج، في مقال رأي بصحيفة فاينانشيال تايمز، الشهر الماضي، “صندوق النقد الدولي يجب أن يخصص حقوق سحب خاصة للدول الأعضاء، للمساعدة في مكافحة تأثير فيروس كورونا”.
وبغض النظر عن الطريقة التي حاولت بها بكين تجاوز الدولار الأميركي، فإنّ دورها العالمي المهيمن راسخ جيداً في المستقبل المنظور، بسبب ضعف منافسيها. وبالنسبة إلى الصين، فإنّ الواقع القاسي سيستمر، إذ لا يزال لديها القليل من الأوراق لتلعبها إذا قيدت الولايات المتحدة وصول البنوك الصينية، استجابة لقانون الأمن القومي الذي فرضته بكين على هونغ كونغ، حسب المحللين.
وقال مارك سوبيل، المسؤول الكبير السابق في وزارة الخزانة الأميركية، الذي يشغل الآن منصب رئيس الولايات المتحدة لمنتدى المؤسسات المالية والنقدية الرسمية، وهو مركز أبحاث مقرّه لندن، إن التكهنات حول انهيار الدولار الأميركي الذي قد يتسبب في فقدانه وضع الاحتياطي “بعيدة بشكل لا يصدق، وغير قابلة للتصديق”.
ووفقاً لسوبيل، لا تزال الولايات المتحدة تمتلك أعمق أسواق رأس المال وأكثرها سيولة في العالم، ونظامها المالي مرن، ويوجد خمول عالمي يدعم استمرار استخدام الدولار الأميركي.
ولم يُعيّن الدولار كعملة احتياطية ومالية للعالم، أو جرى الإعلان عنه. لقد حدث ذلك استجابة لعوامل عضوية، اقتصاد كبير نابض بالحياة، وأسواق رأسمال سائلة عميقة، وحقوق ملكية قوية. وأضاف سوبيل “هذه الخصائص لن تتكرر في أي مكان آخر في العقد المقبل”.
الدولار يمثل 62 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي
وأصبح الدولار الأميركي العملة الاحتياطية الدولية في عام 1944 بعد اتفاقية بريتون وودز. واليوم لا يزال يمثل نحو 62 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي في العالم، على الرغم من انخفاض ذلك عن ذروة بلغت أكثر من 85 في المئة في السبعينيات، يليه اليورو عند نحو 20 في المئة، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
وقال باري إيتشنغرين، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وكبير مستشاري السياسة السابق لصندوق النقد الدولي، إنّ التراجع الأخير للدولار الأميركي هو في الواقع واحدٌ من سلسلة من التقلبات التي يمكن تفسيرها بسهولة.
وتعزز الدولار على خلفية تدفقات الملاذ الآمن إلى سندات الخزانة الأميركية عندما انتشر فيروس كورونا حول العالم في مارس (آذار)، وبدأ الانخفاض بعد أن ضخ الاحتياطي الفيدرالي سيولة كبيرة في الأسواق المالية ابتداءً من مايو (أيار).
وأضاف إيتشنغرين، “الانخفاض اللاحق في قيمة الدولار يعكس التوقعات المتغيرة للاقتصادات الأميركية والأوروبية. مع انتشار فيروس كورونا، تتدهور التوقعات الأميركية، لذلك يتوقع المستثمرون أن يُبقي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة منخفضة فترة أطول”.
غياب المنافس لإنهاء هيمنة الدولار
على صعيد متصل، قال جيمس ماكورماك، الرئيس العالمي للتصنيفات السيادية وعبر الوطنية في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، “من الواضح أن هناك رغبة من جانب صانعي السياسة في عديد من البلدان للحدّ من هيمنة الدولار الأميركي، لكن التغيير الحقيقي لم يترسّخ بعد”.
وأضاف، “من المتصوّر أن الأسواق تتبنى في النهاية وجهة نظر أقل تفضيلاً للجدارة الائتمانية للحكومة الأميركية، ما يقوّض وضع الولايات المتحدة الخالي من المخاطر، لكن حتى في ذلك الحين، يمكن أن تظل البنية التحتية لسوق الخزانة التي يقدرها المستثمرون، وعمقها وسيولتها، دون تغيير إلى حد كبير”، حسب ماكورماك.
وفي حين يتفق الاقتصاديون بشكل عام على أن احتمال إزاحة الدولار الأميركي ضئيل على المدى القصير، فإنّه ما إذا كان من المحتمل أن يحدث على المدى الطويل يعتمد جزئياً على ظهور بديل قابل للتطبيق، مع عدم وجود منافس رئيس يُنظر إليه حاليّاً كخيار .