تزايدت المخاوف أخيراً جرّاء ارتفاع الدَّين العام وتراجع وضع ميزان المدفوعات، فهل نحن مقبلون في وقت قريب على أزمة مالية وعدم القدرة على المحافظة على سعر صرف الليرة؟
الجواب هو “كلا”، لأسباب عديدة. وهذا لا يعني أننا لا نمرّ في وضع اقتصادي صعب بل بالعكس، فنحن بحاجة ماسة إلى البدء بالإصلاح، وتحديداً الإصلاح المالي الذي يأتي في المرتبة الأولى، إذ إن تردّي العجز لسنوات متتالية وتراكم الدَّين هما من العوامل الرئيسية التي أضعفت الأداء الاقتصادي، إضافة إلى الأزمة السورية التي لعبت دوراً مهمّاً في هذا الاتجاه. لقد بلغ متوسّط العجز حتى شهر تشرين الثاني/نوفمبر من 2018 ضعفي ما كان عليه في 2017. ومن المتوقّع أن يبلغ العجز المالي 9.5 آلاف مليار ليرة للعام 2018 ككلّ، ما يوازي 11% من الناتج المحلّي بالمقارنة مع نسبة 7% في 2017. ولن يقل العجز عن 11% في 2019 من دون إصلاح جذري يطال ارتفاع الفوائد والأجور ودعم الكهرباء.
من أهم أسباب تفادي الوقوع في أزمة مالية هو أن نسبة 96% من مجمل الدَّين البالغ 128.3 ألف مليار في نهاية 2018، هي دَيْن محلّي في حوزة الجهاز المصرفي اللبناني والقطاعات العامة (الضمان) والخاصة المحلّية غير المصرفية، إذ يتوزّع الدَّين كالتالي: مصرف لبنان 45%، المصارف التجارية اللبنانية 40%، القطاع العام اللبناني 9%، والقطاع الخاص اللبناني غير المصرفي 2%، وما تبقى يتكوّن من ديون خارجية، 2% ديون ثنائية ومؤسّسات دولية، و2% لقطاعات خاصّة أجنبية وغالبيتها مؤسّسات مالية. ويوازي الدَّين العام (سندات الدولة البنانية) نحو 14% (50 تريليون ليرة) من أصول المصارف وهو ما يوازي 50% من تسليفاتها.
لذا، فإن الخطر المالي جرّاء تراكم الدَّين العام يكمن في الدَّين الذي يحمله القطاع الخاص، إذ إن الدَّين في حوزة القطاع العام (الضمان ومصرف لبنان) ينضوي تحت القرار الحكومي. و الخطر الأكبر من الديون يتأتّى من الدَّين بالعملة الصعبة. إن مجمل الدَّين لدى القطاع الخاص، بما فيه المصارف بالدولار، يبلغ 20 مليار دولار. وتغطّي احتياطيات مصرف لبنان من العملات الصعبة والذهب ضعفَي الدَّين العام في الأسواق الخاصة. كما أن الحكومة تستطيع في الأحوال الطارئة خدمة الدَّين بالعملات الصعبة بالعملة المحلّية. كما أن تسييل سندات الدولة تحدّه فترات الاستحقاق، ما يُقيّد القدرة على تسييلها إلّا في الأسواق الموازية.
إن الخيارات المُقترحة، وخصوصاً من المصادر الأجنبية التي أشارت إلى الحاجة لإلغاء جزء من الدَّين بقرار سياسي على حساب المصارف والمودعين (منها من اقترح إلغاء 65% كما حدث في اليونان)، استندت إلى تحليل وافتراضات خاطئة، إذ إن معظم دَيْن اليونان العام هو في حوزة المصارف الأجنبية، وخصوصاً الأوروبية منها، كما أن اليونان تفتقد عملتها المحلّية بعد الالتحاق بالأسواق الأوروبية واعتماد اليورو والتخلّي عن عملتها المحلّية الدراخما. لذا لم تستطع اليونان خدمة دينها إلّا بالحصول على اليورو من خلال تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، والذي كان من المستحيلات في ذلك الوقت مع وجود عجز مالي مرتفع جدّاً، فاق 15% من الناتج المحلّي. وقد قدّمت المصارف الأوروبية تنازلات عن جزء من دَيْن اليونان لكي تتيح لها المجال لتتمكّن من خدمة ما تبقى من دينها. وقامت المصارف بذلك على حساب أرباحها وليس على حساب ودائع الزبائن، لكون حيازة كلّ مصرف (في المتوسّط) من دَيْن اليونان كانت قليلة نسبة إلى حجم أصول المصارف الأوروبية.
لذلك، فأي إلغاء للدَّيْن بكميات ذات أثر سيكون له وقع مهمّ على المصارف والمودعين، وقد ينتج عنه إجراءات قانونية، وخصوصاً من المؤسّسات المالية العالمية. كما أن للكثير من رجال الأعمال والسياسيين ودائع مهمّة في المصارف اللبنانية، ومن الطبيعي أن يواجهوا أي إجراء من هذا النوع. إن إجراءات إلغاء ديون أي دولة هي إجراءات جدّية ولها عواقب وخيمة، وتحدث عندما تصبح الدولة مفلسة وتكون مجالات الإصلاح قد استُنفِدت. إن هذه المواصفات لا تنطبق على لبنان حالياً ولا في المستقبل القريب. نحتاج من دون شك إلى الإصلاح أولاً، وتحتاج الدولة إلى مجهود مضاعف لكي تحقّق وعدها بخفض العجز بنسبة 1% سنوياً من الناتج المحلّي الإجمالي، وفق تعهّدها في مؤتمر “سيدر”.
من الضروري أن تبدأ الحكومة بتنفيذ إلاصلاحات المُمكنة وبالسرعة القصوى لإعادة الثقة بالحكومة بحدّ ذاتها وللجم التدهور الاقتصادي وخلق فرص عمل، وخصوصاً لفئة الشباب، الذين يعانون من معدّلات بطالة مرتفعة، وإلّا فسيستمرّ التدهور إلى حين وصول مرحلة الإصلاح الإجباري الذي ستفرضه قوى السوق. وقد تنتج عن ذلك سلبيات عديدة، منها: انحسار القدرة على الاستدانة من الأسواق المالية، وعزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في لبنان نتيجة زيادة مخاطره، وفقدان السيطرة على سعر الصرف. وقد يبدأ الإصلاح في القطاعات الأسهل إصلاحها كالطاقة التي تستطيع أن توفّر 2.5 مليار دولار سنوياً، وخفض العجز المالي بنسبة 3% على الأقل. هناك مجالات عديدة للإصلاحات الهيكلية يستطيع أن ينفّذها القطاع الخاص. ولندع الإصلاحات المختلف عليها والصعبة جانباً إلى حين بلوغ القدرة على معالجتها، كالفساد.
إن الاتجاه نحو المساعدات الدولية يواجه عقبات عديدة، منها تحويل الوعود من الجهات المانحة إلى إنفاق فعلي وتنفيذ الإنفاق على المشاريع المطروحة بالسرعة اللازمة. ولكن لا تزال الفرصة سانحة لتفادي تفاقم الأزمة.