هل صندوق النقد مسؤول أيضاً عن إنهيار لبنان؟

يشبّه أحد الظرفاء تعامل المنظومة السياسية والمصرفية مع الأزمة المالية المندلعة منذ نحو 4 سنوات بقصة الرجل الذي يسقط من أعلى طابق في ناطحة سحاب، وكلما مرّ أمام طابق يقول «لم أرتطم !». حالة الإنكار هذه ليست وليدة سنوات الأزمة بل تمتد الى العام 2016، حين عمد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى طلب شطب 14 صفحة من تقرير لصندوق النقد الدولي يحذّر فيه من الكارثة.

سلامة نفى قيامه بشطب 14 صفحة من التقرير، لكنّ الوثيقة التي نشرت في صحيفة Le Temps السويسرية في 2021 تقول «إنّ ممثل صندوق النقد افتتح حديثه مع سلامة بالقول: «أنتم على حافة الهاوية». وأظهرت الوثائق أن الاحتياطي الصافي للبنك المركزي فيه ثقب (عجز) بـ4.7 مليارات دولار كما أشارت إلى أن البنوك المحلية لا تملك السيولة اللازمة لمواجهة أزمة محتملة.

لا شكّ أن هذه المعلومات لو نشرت في حينها ولو أخذ بتحذيراتها لكانت ستسمح بالحدّ من المأساة التي يمرّ بها اللبنانيون منذ 2019 والتي حرمتهم من الوصول إلى حساباتهم المصرفية.

وفي مقابل شبه الإجماع على إدانة سلامة والمنظومة السياسية وتحميلهما مسؤولية وقوع الانهيار، ثمة رأي قانوني يعتبر أن صندوق النقد الدولي يتحمّل المسؤولية أيضاً بقبول إخفاء هذه المعلومات وعدم نشر التقرير كاملاً. فقد كان خبراء صندوق النقد على علم بأن البلاد كانت على وشك الانهيار، لكنهم فشلوا في دق ناقوس الخطر وقدّموا صورة مبتورة للوضع المالي للبلاد، كما يدّعي البعض.

كل ما سبق يجعل السؤال التالي مشروعاً: هل يتحمّل صندوق النقد جزءاً من المسؤولية عن الانهيار؟ وهل يمكن مقاضاته على قبوله إخفاء المعلومات التي أراد سلامة ووزارة المالية إخفاءها؟

الصندوق مسؤول وشركات التدقيق أيضاً

يشرح وزير الدولة السابق للاستثمار والتكنولوجيا والخبير المصرفي عادل أفيوني لـ»نداء الوطن»، أنه «منذ سنوات وصندوق النقد يرسل بعثات دورية الى لبنان، وهذه البعثات كانت تحصل على معلومات مفصّلة من البنك المركزي ومن وزارة المالية، وتصدر تقارير دوريّة على هذا الأساس، تفنّد فيها الوضع المالي والنقدي والاقتصادي في لبنان. وهذه التقارير كانت تؤدّي دوراً مهمّاً في تقييم الوضع من قبل المستثمرين والمودعين وكل المعنيين».

يضيف: «صار من المعروف اليوم أن هذه التقارير لم تسمّ كل الأمور بمسمّياتها، وتغاضت حيناً عن بعض الثغرات الخطيرة في ميزانية البنك المركزي، أو خفّفت حيناً آخر من لهجتها تحت الضغط والمراجعة من السلطات المحليّة»، مشدّداً على أنه «من ضروري أن تكون هناك شفافية في تقييم دور الصندوق في هذه المراحل السابقة وتقييم مسؤولية هذه التقارير الدورية التي كان يصدرها عن إعطاء صورة غير متكاملة عن مخاطر الوضع المالي والنقدي قبل الانهيار، نظراً لأهمية هذه التقارير ومصداقية الصندوق كأهم مرجع دولي ومستقلّ في هذا المجال».

يعتبر أفيوني أن «الأمر لا يتوقف عند صندوق النقد، فمن الضروري التدقيق في تقارير كل المعنيين بالقطاع المالي في هذه الفترة، ومنها شركات التدقيق العالمية التي كانت تتولّى التدقيق في حسابات المصرف المركزي وحسابات المصارف وفي تصديقها، والتي تتحمّل مسؤولية كبرى في التغاضي أو في الإخفاق عن كشف الخلل في ميزانية المصرف المركزي وميزانيات المصارف وهذا إخفاق كانت له تداعيات جسيمة قبل الانهيار».

أهداف الصندوق وأدواره ترسم مسؤولياته

يتجنّب الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، المحامي كريم ضاهر الإجابة عن هذا السؤال بالمباشر، لكنه يرسم خريطة لدور صندوق النقد وأهدافه، تساعد على استنباط الجواب، فيوضح لـ»نداء الوطن» «أنه لا بدّ من شرح أساسيات دور صندوق النقد الدولي بالمطلق وفي لبنان، ومن خلاله يمكن تحليل ومعرفة ما إذا كان يتحمّل جزءاً من المسؤولية عن الانهيار الحاصل وما إذا كان يمكن أن نطالبه بتعويضات أم لا»، لافتاً الى أن «هدف نشأة صندوق النقد بعد الحرب العالمية الثانية هو خلق مؤسسة دولية للمساعدة في خلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً، وتشجيع الدول على اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة وسليمة وتيسير التوسّع والنمو والتجارة الدولية».

يشير ضاهر الى أن «من أهداف الصندوق تصحيح الاختلالات في ميزان المدفوعات في الدول الأعضاء، لذلك يتدخل لإحداث نوع من التوازن من خلال برامج تساعد الدول على استعادة عافيتها الاقتصادية على غرار ما يحاول القيام به مع لبنان وتقديم القروض الى الدول الأعضاء لمعالجة العجز المؤقت في موازين المدفوعات»، مشدداً على أن «هذه الأهداف هي بالمطلق تنحصر بـ3 أدوار للصندوق، الأول رقابي ووقائي من خلال تفادي وقوع الأزمات وهذا ما ينصّ عليه البند الرابع من نظامه الداخلي، حيث يتمّ العرض على الدول الأعضاء إجراء تقييم للوضع الاقتصادي والمالي لها ويصدر تقرير تقييم ويتمّ عرضه على الجهاز المختص في الدولة للتباحث حوله قبل نشره علناً حفاظاً على سيادة الدول، ويتمّ خلال التقرير تقييم وإعطاء إنذار مسبق لأي أزمة يمكن أن تقع بهدف معالجة الاختلالات الموجودة في ميزان المدفوعات/ الميزان التجاري/ الموازنة/ لتجنّب السقوط».

يضيف: «الدور الثاني للصندوق هو المساعدة تقنياً لبناء القدرات في المالية العامة مثلاً وتقديم نصائح ومشورات لحل المشاكل، أما الدور الثالث فهو التمويل وهو الدور الأقل أهمية لأن القروض غالباً ما تكون على مدى قصير، لكن الخروج من السوق المالية العالمية على غرار ما حصل في لبنان، يعني أن صندوق النقد هو الجهة الوحيدة التي يمكن الاتفاق معها على برنامج للتمويل لمعالجة المشكلات الاقتصادية للبلد المعني، لكنه يفرض شروطاً صارمة جداً لجهة أنه مصرف يريد الحفاظ على سيولته وموجوداته، أما الدور الأخير للصندوق فيتمثل بحقوق السحب الخاصة التي تتيح للدول الأعضاء الإفادة منها عند الضرورة «.

يشرح ضاهر أنه «في ما خصّ لبنان أدّى صندوق النقد منذ 30 عاماً، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة دوراً رقابياً وقدّم المشورة للسلطات وفقاً للمادة الرابعة من نظامه. لكن اللبنانيين لم يكونوا يعيرون اهتماماً لصندوق النقد الدولي لأن أغلبهم كانوا مطمئنين بأن الليرة بخير. وكان يقدّم تقريره السنوي للسلطات اللبنانية ويبيّن الاختلالات الموجودة، وللمثال: في الـ2000-2001 كانت نسبة الدين العام مقارنة مع الناتج المحلي في لبنان تتخطى 180 بالمئة والوضع كان متدهوراً جداً، ولجأ الرئيس الحريري الى صندوق النقد كما الى جهات دولية أخرى وانعقد مؤتمر باريس 1 و2، وفرض الصندوق شروطاً إصلاحية نفّذ بعضها مثل تطبيق الضريبة على القيمة المضافة وفرض ضريبة على الفوائد المصرفية، وبعد استشهاده زاد العجز في الموازنة باستثناء مرحلة 2008-2010 لأننا استفدنا من الأزمات المالية في العالم ووصلنا الى نسبة نمو 9 بالمئة».

يذكّر الضاهر أنه «في 2011 بدأ الحساب الجاري يسجّل نمواً سلبياً. وفي الـ2014 صار ميزان المدفوعات سلبياً أيضاً، وصندوق النقد نبّه وقال صراحة إن الوضع المالي في لبنان غير سليم وهناك عجز في الميزان التجاري وفي ميزان المدفوعات. ويقال إنه في العام 2016 تم إخفاء 14 صفحة من تقرير الصندوق وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا بعد التنسيق مع الجهاز المختص في الدولة أي حاكم مصرف لبنان ووزارة المالية»، معتبراً أنه «يجب التحقق من السبب الذي دفع الصندوق للموافقة على هذه الخطوة وما هي الذرائع التي قدّمها المسؤولون اللبنانيون. ومسؤولية الصندوق من خلال الدور الذي يحدّده نظامه الداخلي لا يحتّم عليه أن يكون بالتكافل والتضامن مع السلطة اللبنانية، حتى تتمّ محاسبته بالتعويض عن الأزمة، لأن ما طلب منه هو إعطاء رأيه والمساعدة في بناء القدرات في المؤسسات المالية اللبنانية المختصة، وفعل ذلك».

ويختم أن «ما يطلبه الصندوق هو تنفيذ الإصلاحات قبل تمويل برنامج الإنقاذ معه، وأدوات الضغط التي يملكها هي الثقة التي يعطيها للمؤسسات الدولية وشركات التصنيف تجاه دولة معينة، وغالباً ما تعتمد هذه المؤسسات على رأي الصندوق في اتّخاذ قراراتها، وحين يخرج أي بلد من السوق المالية الدولية لا يبقى له سوى الصندوق لمساعدته وفتح المجال للدول والمؤسسات للمساعدة في تمويل الدول المأزومة. وطالما أن الاتفاق بينها وبين الصندوق لا يحصل فلا تمويل لبرامجها الإنقاذية».

التحذيرات قد تكون كلامية فقط

يرى الخبير الاقتصادي منير راشد أن «هناك عدة وجهات نظر حول عدم كفاية التحذيرات التي قدّمها صندوق النقد للبنانيين لتنبيههم من الانهيار القادم»، لافتاً الى أن «المسؤولين في الصندوق يمكن أن يكونوا وجّهوا هذه التحذيرات كلامياً للمسؤولين اللبنانيين، لأنه لا يحق لهم نشر أي تقرير على الموقع الإلكتروني إلا بعد موافقة البلد المعني، وقد يكونون تغاضوا عن نشر هذه التحذيرات كي لا يرتد ذلك سلباً على وضع البلد المعني مالياً لجهة خروج الرساميل والاستثمارات منه».

يضيف: «صندوق النقد يتفادى أن يعلن صراحة أن الأزمة المالية ستقع في بلد معين. ونحن لا نعرف كلامياً ماذا دار بينه وبين المسؤولين السياسيين والماليين قبل وقوع الأزمة، علماً أنه خطياً تحدّث عن سياسات مالية خاطئة مثل العجز المالي الذي يتراكم وعدم دقة الأرقام الصادرة عن وزارة المال وأنها غير متكاملة ولا تشمل جميع الحسابات، وتكلم منذ عشر سنوات على عجز الكهرباء وأنه سبب أساسي في الدين وأعطى تحذيرات كثيرة انطلاقاً من ضرورة إحداث إصلاح».

يوضح راشد أن «الصندوق لا يمكنه نشر أي تقرير على موقعه الإلكتروني يتعلق بالوضع المالي والنقدي لأي بلد معين الا بعد موافقة البلد المعني، وأعتقد أن المسؤولين اللبنانيين حذفوا جزءاً من تقريره في العام 2017 الذي ينبه الى خطورة الوضع المالي، وكان على الصندوق الامتثال على اعتبار أن هؤلاء المسؤولين يمثلون الشعب اللبناني وهذه القاعدة مطبقة مع كل الدول الأعضاء فيه». في المقابل يشدّد راشد على أن «صندوق النقد يمتلك حصانة عالمية ولا يمكن لأي جهة مقاضاته وهذا أمر غير ممكن، وكل الدول الأعضاء موقعة على هذه الحصانة ومنها لبنان ولا يمكن لأي جهة لبنانية رفع دعوى قضائية عليه.

يقول منير راشد إنه يمكن انتقاد برنامج الصندوق المتعلق بلبنان والذي لم ينفّذ الى الآن، معتبراً «أنه مجحف لجهة شطب الودائع، عن طريق شطب ودائع المصارف في مصرف لبنان وبالتالي يجب أن تشطب ودائع المودعين لكي تبقى موازنة المصارف متوازنة، وهذا أمر مجحف بحق المودعين ولم يحصل في أي بلد آخر».

ويختم:»صندوق النقد يعتبر أن الوضع الحالي هو وضع إفلاس، ولكني شخصياً أرى أنه حالة تعثر ولذلك يجب على المسؤولين فيه أن يجهدوا لحفظ ودائع المصارف في مصرف لبنان وجدولة للودائع بدل شطبها».

 

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةنوّاب الحاكم… عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان!
المقالة القادمةالتدقيق في حسابات «كهرباء لبنان»… تدقيق في حلقات مسلسل فشل وهدر