بغضّ النظر عن قيمة الأموال المَحفوظة في المصارف من قبل كل شخص، فإنّ أهميّتها بالنسبة إليه تكون عالية دائمًا، كونها تُمثّل مجموع سنوات طويلة من العمل ومن الإدخار. وبالتالي، وفي الوقت الذي تُغري فيه الفوائد العالية المَمنوحة من قبل المصارف الكثير من الأشخاص، يخشى الكثيرون من أن يتسبّب أي إنهيار مُفاجئ لقيمة صرف الليرة اللبنانيّة أمام العُملات الأجنبيّة، وبخاصة الدولار الأميركي، إلى خسارة ما يصفونه بجنى عمرهم! وإنطلاقًا مِمّا سبق، هل يجب أن نحتفظ بأموالنا في المصارف، بالدولار الأميركي أم بالليرة اللبنانيّة؟.
بحسب خُلاصة آراء مجموعة من الخُبراء الإقتصاديّين والمَصرفيّين، إنّ الإجابة الصائبة على هذا السؤال الدقيق بالنسبة إلى الكثيرين تتأتى تلقائيًا بمُجرّد الإجابة على سلسلة من الأسئلة المُوازية التي تؤرق كاهل المُواطنين، بحيث تتضح الصُورة، ويُصبح من السهل أخذ القرار المُناسب. وفي هذا السياق، لا بُدّ من إستعراض المُعطيات التي يتخوّف منها الكثير من اللبنانيّين، بحجّة أنّها يُمكن أن تتسبّب بإنهيار قيمة صرف العملة الوطنيّة.
أوّلاً: في حال وقع أي حدث طارئ وخطير في لبنان، وإندفع المُودعون إلى تبديل أموالهم المُدخّرة، من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي، ألا يتسبّب ذلك بإنهيار الليرة؟ كلا، لأنّ لبنان الذي مرّ في العقدين الأخيرين بصُعوبات مالية ضاغطة، صار يتمتّع بالخبرة الكافية لمُواجهة الضُغوط المالية بشكل هادئ وبنفس طويل. بمعنى آخر، عند مُواجهة أي حالة هلع في الأسواق، يقوم المصرف المركزي بالتعاون مع المصارف، بإبطاء حركة التبديلات المالية، وبتحديد سقفها، بشكل مُتعمد يهدف إلى إمتصاص الصدمة تدريجًا. والأهمّ أنّ المصرف المركزي يملك ما يكفي من الإحتياطات الماليّة بالعُملات الأجنبيّة لتأمين السيولة لأي تحويلات كبيرة من الليرة إلى العملات الأجنبيّة في السوق اللبناني. وهو مثلاً واجه خلال الأشهر القليلة الماضية ضُغوطًا كبيرة، نتيجة سيل من الإشاعات الماليّة المُسيئة، لكنّه بقي مُسيطرًا على حركة السوق، على الرغم من تراجع إحتياط المصرف المركزي من العملات الأجنبيّة بشكل محدود وقابل للتعويض.
ثانيًا: ماذا لو قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التخلّي عن منصبه، أو تعرّض لمكروه-لا سمح الله، ألا يتسبّب ذلك بإنهيار الليرة؟ بحسب المعلومات المتوفّرة، إنّ سلامة باق في منصبه في المدى المنظور، وفي كل الأحوال إنّ أي فراغ مُفاجئ على مُستوى رئاسة حاكميّة مصرف لبنان-لأي سبب كان، لن يُسفر عن إنهيار قيمة الليرة، لأنّ المسؤولين في مصرف لبنان سيُواصلون السياسة عينها التي إتبعها سلامة على مدى سنوات طويلة للجم أي تقلّبات في الأسواق. وحتى في حال جرى تعيين حاكم جديد يتمتّع برؤية مُختلفة، وقرّر تطبيق سياسة مصرفيّة جديدة، فإنّه سيكون بدوره حريصًا على حماية قيمة العملة الوطنيّة، وهو لن يعمد بالتأكيد على تطبيق أي تغيير سريع في السياسة المالية، بشكل يُمكن أن يؤدّي إلى إهتزاز الثقة بالسوق.
ثالثًا: ماذا لوّ أدّت التطوّرات الأمنيّة في المنطقة إلى دُخول لبنان في أي حرب، ألا يتسبّب ذلك بإنهيار الليرة؟ بحسب كل المُعطيات المُتوفّرة، لا حرب في المنطقة، ولا بين لبنان وإسرائيل في المدى المنظور، حيث أنّ مصلحة الجميع تتمثّل بالإبقاء على الواقع الراهن. وفي أسوأ الأحوال، حتى في حال إندلعت الحرب بشكل مفاجئ، فإنّ ما سيحدث إقتصاديًا وماليًا في لبنان، سيكون شبيهًا إلى حدّ كبير بما حدث خلال حرب تمّوز 2006، حتى لو تضرّرت البنى التحتيّة اللبنانيّة بشكل أكبر.
رابعًا: ماذا لوّ قرّرت الدول والهيئات الداعمة للبنان التخلّي عن مُساعداتها بشكل مفاجئ، ألا يتسبّب ذلك بإنهيار الليرة؟ إنّ القرار الغربي بمُساعدة لبنان قائم في المرحلة الراهنة، علمًا أنّ لبنان لا يستفيد من مُساعدات مالية كهبات، بل كديون طويلة الأجل، وبالتالي لا تأثير أساسي لهذه الأموال المَوعودة على سعر ثبات الليرة، بقدر ما لها تأثير على المشاريع الإنمائيّة التي تُنفّذها الدولة.
خامسًا: ماذا لو عجزت وزارة المالية عن تأمين الرواتب ووقعت في عجز مالي إضافي، ألا يتسبّب ذلك بإنهيار الليرة؟ بحسب التقارير المالية، إنّ العجز السنوي الذي جرى تخفيضه في مُوازنة العام 2019، ليس بالأمر الجديد، والدولة قادرة على الإستمرار في القيام بواجباتها الأساسيّة، وفي طليعتها تسديد رواتب العاملين في القطاع العام، ولا مُشكلة على الإطلاق في هذا السياق في المدى المَنظور.
في الخلاصة، يُمكن القول إنّه في المدى المنظور، أي خلال السنتين المُقبلتين-في أقلّ تقدير، بإمكان المُودعين الإطمئنان إلى أموالهم المَحفوظة في المصارف بالعملة الوطنيّة. وفي حال بقيت المُعطيات التي لا تتبدّل بشكل سريع أصلاً، هي نفسها في المرحلة المُقبلة، فإنّ ثبات الليرة سيتمدّد إلى أجل غير مُسمّى بطبيعة الحال. وبالتالي، إستفيدوا من الفوائد المُرتفعة على الودائع المصرفيّة بالليرة اللبنانيّة، طالما أنّ هذه الإمكانيّة مُتاحة في المرحلة الراهنة، لأنّه ما إن تزول الإشاعات وتتراجع الضُغوط، فإنّ الفوائد المصرفيّة ستعود للهبوط تدريجًا!.