إن محاولة وضع لبنان على مسار الإصلاح فشلت لغاية اليوم. سبب الفشل الأساسي يكمن في أن الفئة الحاكمة لا تزال تمانع حصول أي خطوات إصلاحية جديّة. صحيح أنه كان لدى لحكومة الحالية خطّة معقولة نسبياً، غير أن المصارف رفضتها، ما يعزّز الاستنتاج بأن الحاكم الفعلي للبنان هو تحالف مصرف لبنان مع كتلة المصارف التي يبدو أنها هرّبت أموالها بغطاء وشراكة سياسيّيْن.
نحن لا نعلم بعد كيف انتقلت المصارف، في وقت قصير، من وضع مزدهر للغاية، لتغرق سريعاً في أزمة سيولة. كان يفترض أن تكون المصارف خاضعة لتنظيم ورقابة صارمة تجنّبها الدخول في مأزق كهذا، لكن المشكلة أن النظام والهيئة الرقابية غضّا النظر عن الاكتتاب اللامحدود من قبل المصارف في سندات الخزينة بالإضافة الى الإيداعات الكبيرة للمصارف لدى البنك المركزي. علماً بأن قانون النقد والتسليف ينيط بمصرف لبنان الإشراف والحفاظ على سلامة الوضع النقدي، بينما ينيط القانون 28/67 بلجنة الرقابة على المصارف التحقق من حسن تطبيق وتسيير النظام المصرفي المنصوص عنه قانوناً…»، وفي مادته التاسعة يجب على اللجنة القيام «بالتدقيق الدوري على جميع المصارف من دون التقيّد إذا رأت ذلك، بأحكام المادة 149 من قانون النقد والتسليف». وقد أعطيت أهمية قانونية مماثلة للجنة الرقابة على المصارف، إلا أن سلوك الطرفين ابتعد عن السلوك السليم إذ انخرط مصرف لبنان في الاكتتاب بكميات كبيرة من سندات الخزينة بالدولار والليرة، وعمل على استجلاب ودائع المصارف لديه عبر فوائد مرتفعة، ثم أقرض الدولة هذه الأموال، ومنح المصارف أرباحاً هائلة بفضل الهندسات المالية. ويبدو أن لجنة الرقابة على المصارف وقفت متفرّجة.
عملياً، إن مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف أجّجا المشكلة من دون أن يقوم أي منهما بالإجراءات التي كان يفترض القيام بها. وفي مجال الرقابة أيضاً، هناك جهاز في وزارة المال اسمه مفوضية الحكومة لدى مصرف لبنان. بحسب قانون النقد والتسليف، كان يفترض بهذا الجهاز أن يضع تقريراً سنوياً بنتيجة التدقيق في عمليات المصرف المركزي، السؤال هنا هل أُعدّت هذه التقارير؟ لماذا لم يطالب أحد بها؟ هذه قضية كبرى كان يجب الالتفات إليها من أجل تعزيز المحاسبة والمساءلة في الدولة.
هذا الأداء المثير للشبهات، واجهته الحكومة بأداء غير فعّال أو ملتبس بالحدّ الأدنى. أعتقد أنه لا بأس بخطّة الحكومة إنما ينقص الفعل. يجب أن تكون الحكومة أكثر ديناميكية. ما كُتب في البداية كان عبارة عن رؤية غنيّة ومعقولة، لكن أين التنفيذ؟ اليوم لا نزال غارقين في النقاش حول قيمة الخسائر وكيفية توزيعها بينما الأزمة تزداد تعقيداً وحدّة على المواطنين. فالعمل يجب أن يتركّز على كيفية استعادة النشاط الاقتصادي من أجل نقل لبنان من مرحلة الجمود الحالي إلى مرحلة تحريك الاقتصاد.
هذا الأمر لا يمكن أن يحصل في ظل خيارات محدودة أو مفروضة على لبنان. فالخيارات الجيواستراتيجية، والخيارات الاقتصادية وسواها من القرارات الماليّة في الموازنة والشأن الاقتصادي، كلها يجب أن تكون ضمن رؤية واضحة. اليوم نعيش في هذه المرحلة الانتقالية في ظل ضغوط أميركية من أجل الابتعاد عن العلاقة مع إيران أو مع الصين. صحيح أن الهدف من كل هذا النقاش كان عبارة عن محاولة من الحكومة الحالية لتغيير سياسات البنك المركزي وتغيير الحاكم نفسه، إلا أن هذه المحاولة اصطدمت كما يبدو بـ«فيتو» أميركي فرض الحفاظ على الحاكم في موقعه، وهذا الأمر تلازم مع رغبات محلية من جهات ومصارف وشخصيات استفادت من تسهيلات البنك المركزي.
فالتدقيق الجنائي لن يقتصر على ميزانيات مصرف لبنان وحده، بل سيشمل الشركات المملوكة منه مثل الميدل إيست وانترا والكازينو وبنك التمويل. وفي حال كان التدقيق جديّاً، يمكن أن يصل إلى نتائج متصلة بهذه الإمبراطورية التي بناها مصرف لبنان.
من جهة أخرى، يجب الاستفادة من مروحة الخيارات القائمة أمام لبنان، فالخيارات الاقتصادية في إطار الهدف المرسوم أي الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، تفرض رؤية مختلفة. التوجّه شرقاً هو أمر متاح، هناك تتوافر الإمكانات التمويلية الهائلة، لكن ثمة من لا يريد أن يتجه لبنان إلى هذا الخيار. هل سيبقى لبنان محكوماً بالبقاء في الفلك الغربي حصراً دون التوجه شرقاً أيضاً؟ فلنأخذ مثلاً عن القدرات الكامنة في هذا التوجّه والمخاوف التي يسببها لهؤلاء: منذ أكثر من عشر سنوات اقترحت الصين مشروعاً متكاملاً لمعرض طرابلس الدولي لكن من دون أي تبرير لم يتجاوب لبنان معها.
ومن ضمن هذه الرؤية، كان لافتاً أن الحكومة لم تأخذ أي خطوة بعد في اتجاه فتح الحدود مع سوريا. هذا الأمر فيه مصلحة كبيرة للبنان لدعم الصادرات. هذه الصادرات هي حاجة وطنية في ظل هذه الأزمة. فالصادرات تستجلب العملات الأجنبية من الخارج. معظم صادرات لبنان تمر عبر سوريا وما زال مفروضاً علينا ألا نقوم بعلاقات رسمية معها، المشكلة سياسية بامتياز. ثمة من لا يريد إقامة علاقة من سوريا ومع إيران التي عرضت علينا بناء معامل الطاقة، إنما لماذا رفضنا العروض الألمانية لبناء مصانع الطاقة قبل سنتين؟ يجب ألا ننسى أنه على مدى السنوات الماضية، تكوّنت حول قطاع الكهرباء سلسلة امتيازات لأصحاب المولدات التي صارت جزءاً مهماً إنما غير مفيد للاقتصاد. هذه الواقعة المكرّرة مرات ومرات عن عجز لبنان في بناء معامل إنتاج كهرباء، مذهلة في بلد مساحته عشرة آلاف كيلومتر مربع.
ما نشاهده يومياً، هو أن جمعية المصارف هي من تحكم لبنان. تحكمه بكل الارتباطات التي تملكها مع مصرف لبنان وأهل السياسة. هذا النظام يُسمى «البانكوقراطية» وهو، على علمي، يتفرد لبنان به. لم يحصل في العالم أن المصارف، من تلقاء نفسها وبشكل خارج عن القانون، تقول لزبائنها إنها لن تسدّد ودائعهم. من حق الإنسان الولوج إلى حساباته المصرفية وسحب المبالغ التي يشاء لتغطية حاجاته. فإذا لم يكن قادراً على سحب المبلغ الذي يريده من حسابه في بلد نظامه يدّعي الاقتصاد الحرّ، يجب إعلان النظام الاقتصادي في لبنان «نظاماً موجّهاً». والحقيقة أنه يجب علينا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومقاضاة النظام اللبناني المخالف لأبسط حقوق الإنسان. اليوم أصبحنا في نظام موجّه من البنك المركزي، لدينا أسعار صرف متعددة، ودخلت في لغتنا الاقتصادية مفردات وعبارات غريبة مثل «مال طازج» (Fresh Money)… نحن في بلد سريالي! إذا كنت تريد الاستيراد تحتاج إلى مباركة البنك المركزي. إن تحويل الليرة إلى دولارات عبر الصرافين يتطلب تعبئة استمارات لتبرير حاجتك إلى الدولارات… وهناك كثير من الناس المقيمين في الخارج لا يمكنهم التصرف بمدّخراتهم في لبنان.
نحن الآن في ظرف مناسب لإنهاء الاقتصاد الريعي واستبداله بالاقتصاد المنتج، الريع دمّر البلد واقتصاده، كما علينا كسر حاجز الامتيازات والاحتكارات الخاصة. الاقتصاد المنتج يعني أن تتاح لنا مروحة خيارات محلية وخارجية، لماذا لا نذهب مثلاً إلى مؤسسات التمويل التي خلقتها دول البريكس BRICS مع الصين؟ يجب أن نبحث في كل الخيارات المتاحة أمامنا.
إن اتخاذ القرارات من قبل الحكومة وتطبيقها أمر ضروري. بعض هذه القرارات يمكن أن تُتخذ سريعاً مثل إعداد الموازنة وتضمينها بنوداً إصلاحية. إعداد الموازنة يبدأ في هذه الفترة من السنة من خلال الاجتماعات التي يقوم بها وزير المال مع الوزراء للنقاش في موازنات وزاراتهم. في أيلول يُنجز مشروع الموازنة ويحال إلى مجلس الوزراء، ثم ينجزها هذا الأخير ويحيلها إلى مجلس النواب.
لماذا لا نرى إصلاحات في الأفق؟ ألم يحن الوقت لإلغاء الصناديق: كـ«مجلس الجنوب»، و«صندوق المهجرين» اللذين لا يزالان يعملان رغم انقضاء أكثر من 30 سنة على نهاية حرب 1975-1990؟ ندفع تعويضات إخلاء منازل وترميم منذ 30 سنة. انتهت الحرب الأهلية منذ ثلاثة عقود ونواصل الدفع! ألم تُنجز هذه المهمة بعد؟ يجب إعادة النظر في الموازنة أيضاً لأن هناك العديد من البنود التي يمكن التوفير فيها من دون أن يكون لها أثر سلبي على الاقتصاد.
مع الإشارة إلى أن الصراع حول توزيع الخسائر والاعتراف بها، يؤدي إلى مزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية. مع التذكير بأن الاقتصاد المبني على الاحتكارات وشبه الاحتكارات كما في اقتصادنا هو اقتصاد متدني الإنتاجية. علماً بأن اقتصاد لبنان يتضمن الكثير من القدرات الإنتاجية الكامنة. يجب تحرير هذه القدرات. لذا، المطلوب أن يتم الاستثمار في القطاعات الإنتاجية. اليوم عادت ظاهرة الاهتمام بالقطاع الزراعي كما حصل أيام الحرب الأهلية. يومها حصلت نهضة زراعية مهمة، وأعتقد أن الظاهرة نفسها يمكن أن تتكرر وخصوصاً أن هناك مصادر تمويل خارجية لم يطرق بابها لبنان بعد، مثل صندوق التنمية العربية، صندوق الأوبك للتنمية، صندوق النقد العربي الذي يعطي تسهيلات كبيرة إذا جرى الاستيراد من بلاد عربية (يمكن استعمالها لاستيراد النفط). يجب أن نتحرك في هذا الموضوع.
لعلنا لا نملك اليوم إلا تحرير هذه القدرات من أجل تعويم الاقتصاد وإن كان الأمر يتطلب بعض الوقت. أنا مقتنع أن هناك قدرات غير مستغلّة. سابقاً كانت الاستثمارات تذهب بالدرجة الأولى إلى القطاع العقاري حيث جمّدنا رساميل هائلة من دون فائدة اقتصادية، لذا يجب أن تذهب الاستثمارات في اتجاه آخر. لمن يتساءل عن هذه القدرات، هناك مثال واضح: لدينا مصنع للشمندر السكري يمكن أن ينتج سكراً، فلماذا لا نعيد تشغيله؟ لدينا الكثير من المساحات الزراعية غير المستغلة فلماذا لا نخطّط لزراعتها؟ أين المناطق الصناعية الخاصة؟ إيدال ماذا تفعل؟ ماذا فعلت؟
رغم ذلك، أنا متفائل إلى حدّ ما. قد يكون الاقتصاد الموجّه حالياً جسر العبور نحو الاقتصاد الإنتاجي إذا أحسنّا استغلاله وتوجيه مساره. فنحن ذاهبون، بقوّة الحالة، إلى الاستثمار في الزراعة والصناعة. يجب استغلال هذا المسار ومراكمته.