هل يطلق التقارب التركي – المصري العنان لإمكانات ثروة الغاز الطبيعي في شرق المتوسط

أدّى اكتشاف كميات كبيرة من الغاز شرق المتوسط على مدى السنوات الماضية إلى الرغبة في ربط أسواق الطاقة في المنطقة وبالمقابل دفع البلدان المتصارعة فيها إلى طاولة المفاوضات لكن تبّين أن هذه الآمال كان مبالغا فيها. لكنْ رغم ذلك هناك أهداف أضيق نطاقا ما يزال من الممكن تحقيقها.

وفي حين كان للمواجهة السياسية تأثير محدود على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر وتركيا، تهدف القاهرة وأنقرة بعد تطبيع العلاقات إلى رفع تعاونهما الثنائي إلى مستوى جديد على مدى السنوات القادمة حيث يرغب كلاهما في رؤية الطاقة في قلب هذا التعاون.

ومثلت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى تركيا في الرابع من سبتمبر علامة فارقة في العلاقات بين البلدين. فقد جاءت الزيارة بعد أقل من سبعة أشهر من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في فبراير، مما أشار إلى الرغبة في إذابة الجليد في العلاقات بعد عقد من التوترات.

ومنذ عام 2013، أدى دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، الذي أعقبته مواقف متباينة في شرق البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، بالإضافة إلى المصالح المتضاربة في ليبيا، إلى توتر العلاقات بين تركيا ومصر بشكل خطير.

وبعد عقد من الزمان، يسود نهج أكثر براغماتية، يبني على المصالح المشتركة، والمخاوف المشتركة، والإرادة لإدارة التوترات حيث تستمر وجهات النظر المتضاربة.

وتتساءل المستشارة في قطاع الطاقة منى سكرية في تقرير نشره المجلس الأطلسي عن التطورات التي يمكننا توقعها في قطاع الطاقة، وخاصة في ما يتعلق بالغاز الطبيعي، بعد هذه المصالحة.

مسارات متعارضة

أدت الديناميكيات التي حفزتها سلسلة من اكتشافات الغاز الطبيعي في المنطقة في نهاية المطاف إلى تفاقم التوترات القائمة بين مصر وتركيا (على الرغم من أنها لم تتسبب في حدوثها). ووجدت مصر وتركيا نفسيهما تدريجيا على مسارات متعارضة.

وعلى مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، نشأت منافسة ضمنية بين البلدين، اللذين يتمتعان بأكبر الأسواق وأكثر البنى التحتية تطورا في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يتنافس كل منهما على أن يصبح الوجهة الرئيسية ونقطة العبور لموارد الغاز في المنطقة.

ويضاف إلى ذلك وجهات نظرهما المتباينة حول كيفية تحديد الحدود البحرية، إذ تعتقد تركيا أن قدرة الجزر على توليد مناطق بحرية يجب أن تكون محدودة مقارنة بالدول ذات الجبهات الساحلية الأطول، في حين وقّعت مصر اتفاقيات لترسيم حدودها البحرية مع قبرص واليونان على أساس الخط المتوسط، وإن كانت مع تعديلها عند الضرورة.

وقد أدى هذا إلى تقريب مصر من قبرص واليونان. وبالتوازي مع ذلك، أدى تدهور العلاقات الإسرائيلية – التركية إلى تعميق المشاركة بين إسرائيل وقبرص واليونان.

وتلت ذلك سنوات من التنسيق الدبلوماسي بين مختلف البلدان في المنطقة، حيث وجدت كل منها نفسها، من منظورها الخاص، في مواجهة سياسة خارجية تركية أكثر حزما. وعُقدت العديد من القمم الثلاثية والاجتماعات الوزارية، والتي بدت وكأنها عزلت تركيا في جوارها.

القوة الناعمة والصلبة لتركيا تحقق تقدما في الجوار القريب لمصر، مما يسبب بلا شك قلقا في القاهرة ويدفعها إلى البقاء على حذر

وكانت ذروة هذا الاتجاه إطلاق منتدى غاز شرق المتوسط في عام 2019. وقد تناول المنتدى الحاجة إلى جهد منسق إقليميا لإطلاق العنان للإمكانات الكاملة لثروة الغاز البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط مع حمل بعد جيوسياسي تغذيته العلاقات المتوترة بين معظم أعضائه المؤسسين وتركيا.

ومع ذلك، بعد عدة سنوات، انخفضت النتائج الملموسة لهذه الموجة من النشاط الدبلوماسي وانتهى منتدى غاز شرق المتوسط إلى ما دون التوقعات. وتكشف لمحة عامة عن الوضع الحالي في المنطقة أن مصر تواجه عجزا في الغاز، وأن قبرص تكافح لتطوير احتياطياتها، وأن إسرائيل منخرطة في صراع متعدد الجبهات زاد من المخاطر على قطاع الطاقة لديها.

وفي الوقت الحالي، يبدو أن تركيا نجحت في اجتياز هذه الفترة العاصفة. وواجهت تركيا ما اعتبرته أنشطة استكشاف استفزازية من خلال الضغط على الشركات، بل وذهبت في بعض الأحيان إلى حد عرقلة عملها، وإجراء عمليات استكشاف خاصة بها، غالبا في مناطق تطالب بها دول مجاورة.

وبالتوازي مع ذلك، استثمرت تركيا بشكل كبير في البنية التحتية للغاز الطبيعي، وخاصة في مرافق إعادة التغويز والتخزين. ومن اللافت للنظر أن قدرتها على إعادة التغويز نمت خمسة أضعاف منذ عام 2020.

وتسمح القدرة على استيراد المزيد من الغاز الطبيعي مما يحتاجه السوق المحلي، إلى جانب شبكات خطوط الأنابيب، لتركيا بوضع نفسها كمركز لتوريد الغاز، وخاصة لدول جنوب شرق أوروبا. واليوم، يبدو أن تركيا تواجه مشهدا إقليميا مختلفا بشكل ملحوظ.

المجالات المحتملة للمناقشات

إن المصالحة بين تركيا ومصر سوف تثير حتما مناقشات حول مجموعة من القضايا التي تهم أحد الجانبين أو كليهما والتي لها درجات متفاوتة من الآثار الفعلية على مشهد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ويبدو أن تعزيز صادرات الغاز الطبيعي المسال المصرية إلى تركيا يمثل مجالا واضحا للتعاون. ومع ذلك، يشهد إنتاج الغاز في مصر انخفاضا مطردا، مدفوعا في المقام الأول بانخفاض الإنتاج من حقل غاز ظهر وسجل استكشاف مختلط في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى اكتشافات متواضعة غير كافية لتعويض انخفاض الإنتاج من الحقول القديمة. وانخفض الإنتاج إلى أدنى مستوى له في سبع سنوات في يوليو، في حين ظل الاستهلاك قويا، مما ترك مصر تعاني من عجز متزايد في الغاز.

وبينما لا تستبعد مصر تصدير بعض الشحنات هذا الشتاء على الرغم من عجز الغاز المحلي، فإن مثل هذه الصادرات ستشمل أحجاما متواضعة. ومن غير المرجح أن تستعيد مصر مكانتها كمصدر صافٍ أو أن تكون موردا مهما لتركيا في الأمد القريب إلى المتوسط.

وعلى هذا، ففي حين أن هذا مجال للتعاون تحرص كل من القاهرة وأنقرة على تطويره، فإن قدرة مصر على تصدير كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال سوف تعتمد على توافر الغاز الخام، والذي يعتمد بدوره على مصدرين للإمداد، وهما الإنتاج المحلي، على أمل تحقيق اكتشافات جديدة، حيث لن تكون مكاسب الإنتاج من الحقول القائمة كافية؛ والإمدادات المستوردة من إسرائيل، وربما قبرص. ومن المتوقع أن تزيد الإمدادات الإسرائيلية على مدى العامين المقبلين، في حين قد تتمكن قبرص من إمداد مصر بالغاز اعتبارا من عام 2028.

ومن بين مجالات التعاون المحتملة الأخرى استكشاف الهيدروكربونات. فقد نظمت مصر جولات من العطاءات سنويا تقريبا. وقد توفر المناقصة الحالية، التي أطلقت في أغسطس ومن المتوقع أن تُغلق في فبراير 2025، فرصة لشركة تركية لدخول السوق المصرية، بناء على تطبيع العلاقات بين البلدين.

وعندما يتعلق الأمر بالحدود البحرية، لا يُتوقع حدوث تغييرات كبيرة في المواقف. ولا يُتوقع أن تعيد أنقرة النظر في المبادئ التأسيسية لكيفية تصورها لحدود بحرية يجب تحديدها، ولن تدين القاهرة اتفاقياتها مع قبرص واليونان. ومع ذلك، يُظهر سلوك مصر على مدى السنوات الماضية أنها تتعامل بحذر بين الجانبين.

وحتى عندما كانت التوترات بين القاهرة وأنقرة مرتفعة، امتنعت مصر عن استفزاز تركيا وأبرمت فقط اتفاقية ترسيم جزئية مع اليونان في عام 2020، والتي تركت الجزء الشرقي من الحدود المحتملة لتجنب الدخول في تأثيرات جزيرتي رودس وكاستيلوريزو اليونانيتين على الخط النهائي.

ولا تريد القاهرة أيضا تعريض علاقاتها بأثينا للخطر. وفي أعقاب اتفاقية الحدود البحرية لعام 2020، أطلقت مصر جولة عطاءات تقدم كتلة قد تعني إحداثياتها الشمالية اعتراف مصر بحدود الجرف القاري لتركيا. وبناء على طلب يوناني، غيّرت مصر مخطط الكتلة لتجنب التورط في نزاع يوناني – تركي.

وقد يعمل موقف تركيا وسوق الغاز والبنية الأساسية التي تمتلكها على تعزيز التعاون الإقليمي والمساهمة في تيسير تسييل موارد الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي استكمال جهود منتدى غاز شرق المتوسط.

تعزيز صادرات الغاز الطبيعي المسال المصرية إلى تركيا يمثل مجالا واضحا للتعاون

ومع ذلك، من غير المرجّح أن تنضم تركيا إلى المنتدى كعضو كامل العضوية في هذه المرحلة، على الرغم من مصالحتها مع مصر واستعدادها لإدارة التوترات مع اليونان.

والواقع أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تتعارض مع بعض أساسيات السياسة الخارجية التركية، نظرا إلى ما قد تعنيه من اعتراف بجمهورية قبرص واحترام الحدود البحرية التي تنازعها.

وتتطلب المصالحة بين مصر وتركيا استعدادا مستمرا من كلا الجانبين لإدارة التوترات المتبقية.

ويسود حاليا نهج أكثر براغماتية، لكنه لا يخفي حقيقة أن البلدين لا يزالان متنافسين، وخاصة من حيث النفوذ الإقليمي.

وتحقق القوة الناعمة والصلبة لتركيا، على وجه الخصوص، تقدما في الجوار القريب لمصر، مما يسبب بلا شك قلقا في القاهرة ويدفعها إلى البقاء على حذر.

وفي حين يبدو أن البلدين عازمان على إدارة خلافاتهما، فقد تظهر التوترات من جديد في المستقبل بسبب المصالح المتنافسة.

وفي ما يتعلق بالطاقة، تتضمن مجالات التعاون التي يمكن تطويرها مشاريع مفيدة للطرفين ومنخفضة المخاطر السياسية.

وقد يشمل هذا صادرات الغاز الطبيعي المسال المصري إلى تركيا؛ ومع ذلك، في الأمد القريب إلى المتوسط، سيعتمد ذلك على قدرة مصر على التغلب على عجز الغاز المحلي. وقد يشكل استكشاف موارد الهيدروكربون أو تطوير مشاريع الطاقة المتجددة مجالات أخرى محتملة للتعاون.

وتثير المشاريع شديدة التسييس، مثل انضمام تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط كعضو كامل العضوية أو إعادة النظر في الحدود البحرية، قلق جهات فاعلة إقليمية أخرى ما يعيق إحراز تقدم على هذه الجبهة خلال الفترة المقبلة.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةرصد ارتفاع الأسعار في 2024: الاتصالات واللحوم هي الأعلى
المقالة القادمةارتفاع اسعار المحروقات