يمرّ لبنان، منذ العام 2019، بأزمة ماليّة حادة، أدّت إلى تدهور الوضعين الاقتصادي والمالي، حيث تراجع سعر العملة الوطنية، وبقيت الودائع في خزائن المصارف، وأدّت التراكمات الى كساد إقتصادي حاد. طبعاً، لا يمكن إعتبار أن أزمة لبنان مستجدّة إنما تعود الى النظام الفاسد القائم منذ عقود، ولكنها إنفجرت مع حدوث الاحتجاجات في العام المذكور. منذ ذلك الوقت واللبنانيون يسمعون التراشق الكلامي وكيل الاتهامات، دون حلول جديّة تعطيهم بصيص أمل بإمكانية تحسّن الوضع أو حتى إستعادة أموالهم وجنى عمرهم المحجوز المصارف… في المقابل، دول كثيرة واجهت أزمة مشابهة كتلك التي نمرّ بها، ونجحت في ردّ الأموال والنهوض بالبلاد من جديد.
نعم، قد يكون أحد تلك الحلول للأزمة هو بالاتجاه نحو إعتماد النظام الانكلوسكسوني القضائي، أي تعيين محقّق مالي خاص يقوم بالتحقيقات، وهو الذي يسوق إلى المحاكمة فوراً ويُعْطى صلاحيّات استثنائية وتسقط جميع الحصانات أمام تحقيقاته. هذا الانتقال، هو عملياً ما ورد في إقتراح القانون الذي تقدم به رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل إلى المجلس النيابي، تحت عنوان “اقتراح قانون تعيين محقّق عدلي”، وهو عملياً ليس بشيء غير مألوف في العالم، فالعديد من الدول تعتمده، لا سيّما تلك الّتي واجهت أزمات مشابهة للبنان ونجحت في تخطّيها ورد الأموال كأيسلندا. ولكن في لبنان، على الطبقة السياسية الموجودة هو “ثقيل” نوعاً ما، ولكنه جريء، وعلى حدّ وصف مرجع قضائي رفيع لـ”النشرة”، الذي اعتبر أنه “ثورة” حقيقية!.
يشرح المرجع القضائي الرفيع الفارق بين النظام المعتمد حالياً في لبنان لإجراء التحقيقات، وكيف تسير الأمور فيما لو تمّ إعتماد محقّق ماليّ خاصّ، ويشير إلى أنّ “نظامنا القضائي فرنسي، إذ يصل الملف إلى المدّعي العام الذي بدوره يجري التحقيقات مع أشخاص يستمع إليهم، لِتُجرى التحقيقات مرّة جديدة من خلال قاضي التحقيق مع نفس الاشخاص، بالمختصر يتمّ القيام بنفس العمل أكثر من مرّة”، ويضيف: “بعدها نذهب إلى الهيئة الإتهامية التي تراقب عمل قاضي التحقيق، ومن ثمّ نذهب إلى المحاكمة، بما معناه نمرّ بثلاثة مراحل من قاضي التحقيق إلى النيابة العامة لنصل إلى المحاكمة”.
في النظام الانكلوسكسوني يختلف الأمر تماماً، إذ يشير المرجع القضائي إلى أن “هناك المدعي العام، الذي يجري التحقيقات ويأخذها إلى المحاكمة”، ويلفت إلى أن “العديد من البلدان اتجهت إلى اعتماد هذا النظام، كفرنسا والمانيا وسويسرا وغيرهم، حيث ألغوا المرور بقاضي التحقيق، بإعتماد المدّعي العام لاجراء التحقيقات والتحويل على المحاكمة”.
في العالم دول عديدة مرّت بأزمة مشابهة لما يحدث منذ سنوات في لبنان وأيسلندا واحدة منها، مع حدوث أزمة مالية خطيرة واجهتها صعوبات في إعادة تمويل ديونها قصيرة الأجل والودائع في هولندا والمملكة المتحدة، وكان الانهيار المصرفي في ايسلندا هو أكبر انهيار اقتصادي مرّ به بلد في التاريخ الاقتصادي، الأمر الذي أدى إلى أزمة إقتصاديّة حادة مابين عامي 2008 و2010، بالاضافة إلى اضطرابات سيّاسية كبيرة… ولكن بالخطوات التي قام بها البلد المذكور، نجح بردّ الودائع للناس وإعادة النهوض بالاقتصاد بالبلاد، فكيف نجا بذلك؟.
أولا، يشرح المرجع القضائي أن “ايسلندا لجأت إلى تعيين مدّعٍ عام بصلاحيات استثنائية، مهمته فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات وسوق المتورطين إلى العدالة أيًّا يكن مركزهم”، لافتاً إلى أنه “وجّهت أصابع الاتهام إلى 110 أشخاص، وهم من المديرين السابقين للقطاع المالي والمصرفي والاداري، كما صدرت أحكام بحقّ رؤساء ومسؤولين تنفيذيين ووزراء وسياسيين، وجرى تأميم البنوك الثلاثة الأساسية تحت هيئة الاشراف الماليّة، وانشاء لجنتين: واحدة للاشراف وتسيير الأعمال اليوميّة وأخرى لمفاوضة كبار المودعين”، مشيراً إلى أنّه “بهذه الطريقة، استطاعت ايسلندا الخروج من أزمتها وردّ الاموال واعادة تسيير العجلة الاقتصاديّة… ولكن ما الذي يمنع لبنان من السير في نفس الخطوات”؟.
يؤكد المرجع القضائي أن “اقتراح القانون الذي تقدّم به باسيل ووقعه تكتل لبنان القوي، والذي حصلت “النشرة” على نسخة منه، قد يكون طريقاً إلى حلّ الأزمة الماليّة التي تمرّ بها البلاد خصوصا أزمة المصارف”، لافتاً إلى أن “أهميته ليست فقط التعيين بل في الاسباب الموجبة التي أعطت قاضي التحقيق أو المدعي العام صلاحيات استثنائية، وسمحت له بسوق أيّ كان الى العدالة، وأسقطت الحصانات عن جميع المسؤولين في التحقيقات التي يجريها، وعملياً يفترض أن تقوم الحكومة بتعيينه وإذا لم يصار إلى القيام بذلك، فإنّ وزير العدل هو من يقوم يعيّن وبمرسوم”.
كُثر ممّن يأخذون على باسيل في السياسة بسبب الخلافات الحادة بين مجموعة المكوّنات اللبنانيّة، ولكن الا يستحّق هذا القانون أن يُعْمَل عليه بجدّية كرمى لعيون المواطن اللبناني، الّذي عانى ويعاني من طبقة سياسيّة فاسدة طامحة طامعة، ولا سيّما ممّن يعتقدون أنّهم فوق القانون لا بل أنّ القانون وُجِدَ لينفّذ مآربهم بغض النظر عن هموم المواطن اللبناني الّذي هو المصدر الأول والأخير لمداخيل هذه الدولة؟!.
وعلى أمل ألاّ يذهب هذا الاقتراح بين أدراج النسيان، فهو قد يشكّل بادرة أمل لاستعادة ودائع الناس والنهوض بالبلاد من جديد…