هل يمكن لصفقة أن تسقط الحقّ العام؟ الاعتماد المصرفي: تسوية تعفي خليفة من الملاحقة

يواجه مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف تحدّياً كبيراً، انتقل بحمله أيضاً الى النيابة العامة التمييزية، حيث بدأت الأسئلة تحوم حول كيفية معالجة ملف بنك «الاعتماد المصرفي» المتعثّر، سواء لناحية التدقيق الكامل وتحديد المسؤوليات عن سوء إدارة المصرف، أو سوء الائتمان في حماية أموال المودعين.سبق للجنة الرقابة على المصارف أن طلبت في سنوات سابقة من المصرف تقارير لتبيان حقيقة المشكلات التي يواجهها، والتي تركزت أخيراً في «الفجوة» المالية بين الموجودات والمطلوبات، علماً أن المصرف نفسه، مثل بقية المصارف، يحمّل مصرف لبنان المسؤولية عن «هدر» الأموال التي استدانها من المصارف.

وبعد طول تدقيق وتحقيق، تقرّر أخيراً تعيين مدير مؤقت للمصرف هو النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، والذي يقود عملية تصفية مصرف «جمال ترست بنك» بعد وضعه على لائحة العقوبات الأميركية. ويرتبط اسم بعاصيري بملفات ذات صلة، نتيجة عمله السابق في مصرف لبنان، ونتيجة تواصله المهني أو الشخصي مع العاملين في الحقل المصرفي، وله اطّلاعه التفصيلي على ملفات العقوبات الأميركية في القطاع المصرفي، وهو كان من الذين تربطهم صلة بوزارة الخزانة الأميركية خلال مهامّه في حاكميّة مصرف لبنان.

وبعد تولّي بعاصيري الإدارة المؤقتة للمصرف، باشر عملية تدقيق وفق لائحة الملاحظات التي وردت في تقارير لجنة الرقابة على المصارف، قبل أن يصار الى إحالة ملف المصرف الى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، التي أحالت الملف بدورها الى النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار. وبعدما اطّلع الأخير على الملف، عقد سلسلة من الاجتماعات غير المعلنة مع معنيّين بالملف، بينهم بعاصيري نفسه، والمحامي مارك حبقة، وكيل المدير العام للمصرف طارق خليفة، وآخرين. وذلك على خلفية قراره «إحضار خليفة» الى التحقيق. وهي مذكرة كشفت عن أن الملف الذي يوجد بين يدي الحجار كبير، بحيث لم يرسل في طلب خليفة الى جلسة استماع، بل طلب من الضابطة العدلية (فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي) إحضاره بالقوة، وهو أمر لم يحصل، علماً أنه تبع انتشار الخبر حفلة مداخلات وتدخّلات سياسية، بما في ذلك طلب البطريرك الماروني، بشارة الراعي، الاجتماع شخصياً مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، للاستماع منه حول حقيقة وضع المصرف، وتبياناً لشائعات وصلت الى بكركي بأن هناك من «يريد السيطرة على مصرف مسيحي لمصلحة مسلمين». وقد أطلع منصوري الراعي على تفاصيل كثيرة أزالت اللبس عند بكركي، وأعادت الزخم على الملاحقة القانونية.

ووفق ما سبق أن نشرته «الأخبار»، فإن الاتصالات التي جرت بين أطراف الملف أفضت الى تفاهم قام على أساسه المحامي حبقة بزيارة الحجار، ومعه تعهّد بحضور خليفة الى جلسة تحقيق. لكن حبقة طلب من الحجار ومن بعاصيري أيضاً، إفساح المجال أمام «تسوية رضائية» لمعالجة «أصل المشكلة العالقة مع مصرف لبنان»، ليتبيّن لاحقاً ان الحديث يدور حول تسوية عمل عليها أصدقاء لجميع الأطراف، وبينهم من لديه علاقة عمل بالمصرف. وبعد اتصالات مكثفة وطويلة جرت بعيداً عن الإعلام، أعلن أخيراً عن تحقيق تسوية تهدف الى إقفال الملف الرئيسي الموجود أمام هيئة التحقيق الخاصة، والذي يتم اختصاره بطلب زيادة المصرف رأسماله بمبلغ من «الأموال الطازجة» قدّرت بحوالي 32 مليون دولار نقدي، ما يوازي قيمة 309 ملايين دولار بنكي، تمثّل حجم الفجوة المطلوب سدّها. وتقول التسوية بأنّه في حال إنجاز هذا الأمر، يكون المصرف قد أقفل ملفّه الإشكالي مع مصرف لبنان.

في مرحلة أولى، اقترح خليفة توفير المبلغ من موجودات المصرف، أي من أصوله القائمة، بالإضافة الى مبلغ نقدي. لكن لجنة الرقابة على المصارف ابلغت الوسطاء أنها لن تقبل بذلك تحت أي ظرف، وأن على إدارة المصرف توفير مبالغ جديدة طازجة تُضَخّ في سيولة المصرف، وخصوصا أن عليه موجبات تجاه المودعين الذين يسحبون أموالاً نقدية بالدولار شهرياً وفق تعاميم مصرف لبنان ذات الصلة.

من جهته، فتح الحجار الباب واسعاً أمام هذه التسوية، وجمّد خطواته القضائية، وترك لبعاصيري ووكيل خليفة إنضاج التسوية مع مصرف لبنان. وقد عاد خليفة ووافق على أن يجري توفير المبلغ بـ»دولارات طازجة»، وقد أشار أكثر من مصدر مطّلع على التسوية الى أن خليفة تعهّد بدفع مبلغ عشرة ملايين دولار كدفعة أولى، على أن يصار الى توفير بقية المبلغ خلال سنة كحدّ أقصى، شرط أن تثبّت عملية التدقيق مسؤولية الإدارة في وجود الفجوة.

خليفة أم المساهمون والمودعون؟

وفيما يجري الحديث عن توافق أولي على هذه التسوية، عادت الأزمة لتطلّ برأسها من باب آخر، إذ إن خليفة، وفق قواعد التسوية، وبناءً على ما تطلبه الهيئات الرقابية والمحاسبية في مصرف لبنان، طالب جميع المساهمين في «الاعتماد المصرفي» بدفع ما يتوجّب عليهم من المبلغ المستحق، وأن الأمر لا يقع على عاتقه فقط، وهو ما يفرضه القانون المعمول به.

وحسب بيانات المصرف المنشورة على موقعه الإلكتروني، فإن أسهم المصرف موزّعة على المساهمين وفق الآتي: طارق خليفة (0.31%)، (Financial Trust Participation Holding – طارق خليفة 48.59%)، (Holfiban Holding – طارق خليفة 10.2%)، ماريا خليفة بازرجي – شقيقة طارق خليفة 4.69%)، (صلاح فؤاد الزغبي – ابن عمة طارق خليفة. 6.09%)، Financial Profile Holding – فادي بربر 20%)، (Mernosa Holding – محمد جوهر 10%)، (يولا عادل سريّ الدين 0.01%)، (إيلي عبدو رزق الله 0.01%) و(جورج أنيس نور – استقال وتنازل عن حصته البالغة 0.01%).

وإذا كان القانون يلزم جميع المساهمين بالمشاركة في توفير المبلغ المطلوب، إلا أن واقع الحال يبدو مختلفاً. وعلمت «الأخبار» أن مساهمين بارزين يرفضون دفع أيّ مبالغ، ولهؤلاء رأيهم في أصل الملف وفي كيفية معالجته. ويبدي هؤلاء خشية من «وجود ضغوط سياسية تمارس لأجل إقفال ملف التدقيق الداخلي في كل العمليات المالية التي قام بها المصرف أو عبره خلال السنوات الماضية». ويتحدث هؤلاء عن «تلاعب حصل في البيانات التي أرسلت من قبل إدارة المصرف الى لجنة الرقابة وهيئة التحقيق الخاصة في وقت سابق، وأن بيانات حسابات وعمليات أحد رجال الأعمال رالف الصياد، والتي طلبها مصرف لبنان من المصرف نفسه، لم تصل كاملة. وأنه تمّت إزالة أسماء ومعطيات فيها، والسبب هو حماية شخصية لها دورها في عالم السياسة والمال. وأنه تمّ التثبّت من هذا التلاعب بعد تولّي بعاصيري إدارة المصرف، لأن شطب المعطيات في البيانات المرسلة الى مصرف لبنان لا يمكن شطبها من بيانات المصرف الأساسية».

إضافة الى ذلك، يثير المعترضون مسألة ذات بعد قانوني تتعلّق بالحقّ العام، إذ إن البيانات التي وردت الى القاضي الحجار، والتي قرّر على أساسها أن هناك مخاطر تلزم «إحضار خليفة بالقوة الى التحقيق»، هي وقائع قوية تدفع الى وجود «شبهة اختلاس داخل المصرف وأموال المودعين والمساهمين أيضاً». وبالتالي، فإن التسوية المقترحة لا يمكن أن تسقط الحق في ملاحقة إدارة المصرف، لا خليفة وحده، لأجل التثبّت من عمليات الاختلاس.
ويقول المعترضون إن التسوية تهدف الى وقف عمليات التدقيق، وبالتالي وقف عمليات الملاحقة. وإن استمرار التدقيق سيكشف عن فضائح كثيرة. ويقول المعترضون إن هناك «جهة ما في البلاد، قررت العفو عن المرتكبين، وتحميل المسؤولية إلى جميع أعضاء مجلس الإدارة والمساهمين، وهو أمر تناقضه التحقيقات وعمليات التدقيق الأولية، وأن البتّ به يتطلّب الاستمرار بالتدقيق». وبحسب هؤلاء، فإن هناك «ملامح تسوية كبيرة تقضي بالعفو عن كل المخالفات، وأن خليفة نفسه حصل على تعهّد بعدم توجيه أيّ تهمة له في حال سار بالتسوية، وأن بعاصيري سيعلن انتهاء مهمته كمدير مؤقت، وسوف يصار الى إعادة المصرف الى وضعه الطبيعي، وسيكون هناك معركة على من يتولّى إدارته، حيث يرفض مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف استمرار خليفة أو من يختاره هو في إدارة المصرف، بينما يسعى خليفة الى العودة الى ممارسة مهامّه طالما لم يعد ملاحقاً، أو يقترح تولّي المديرة العامة الحالية نائلة زيدان إدارة المصرف».

عملياً، يبدو أن هناك أسئلة كثيرة تبقى عالقة في هذا الملف، والإجابة عنها مسؤولية مشتركة بين بعاصيري، بسبب اطّلاعه على كامل تفاصيل الملف، ومصرف لبنان، كونه الجهة التي ستقرّر مصير المصرف كما سائر المصارف، وأخيراً القاضي الحجار، الذي يجيد التمييز بين تسوية على خلافٍ عاديّ وبين إخفاء معالم جريمة يوجد مشتبه فيهم بارتكابها، وخصوصاً أن آليّة معالجة هذا الملف ستشكّل سابقة يستند إليها في معالجة الكثير من الملفات الخاصة بالمصارف المتعثّرة، أو التي تبيّن أنها أساءت إدارة أموال المودعين.

 

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةالميزان التجاري للبنان مع الدول العربية في العشر سنوات الماضية من 2014 الى 2023
المقالة القادمةبلدية بيروت: زمن السُّلَف يخلق أباطرة جدداً