من المفترض أن يسلم رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية ميشال أفرام هيئة الشراء العام مناقصة شراء بذور القمح الطري، بعد تأخير طويل يجعل زراعة القمح مغامرة بالنسبة للمزارعين. كل شيء وارد الحدوث، ومن ضمن ذلك أن يغيّر أفرام رأيه ويتراجع عن الموعد كما فعل مرات عدة، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان الرجل ينفّذ «قراراً» بمنع لبنان من زراعة القمح!
مرّ أسبوع من شهر كانون الأول، ولا تزال مناقصة شراء بذار القمح الطّري (راجع الأخبار عدد الاثنين 28 تشرين الثاني 2022، «لا قمح هذا العام») اللازم للخبز الأبيض سراباً يطارده المزارعون الذين تجاوبوا مع طلب وزارة الزراعة وتكبّدوا تعب وكلفة تحضير أراضيهم لاستلام البذور وزراعتها.
وجود «قرارٍ» بعرقلة شراء البذار ضمن خطة القمح التابعة للوزارة صار شبه مؤكد. إذ ما من مبرّر لتأخر رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية ميشال أفرام في تسليم عرض المناقصة إلى هيئة الشراء العام حتى صباح اليوم، ما دفع غالبية المسؤولين المعنيين بالقضية إلى التساؤل عما إذا كان أفرام «ينفذ قراراً سياسياً لحساب جهة خارجية أو داخلية، أو قراراً تجارياً لحساب شركات استيراد الحبوب»، أم أن مزاجية الموظف تدفعه إلى «مجاكرة» الوزير عباس الحاج حسن على حساب المزارعين والأمن الغذائي، المفقود أساساً.
«الأخبار» حاولت الاستفهام من رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية عن أسباب التأخير الذي قد يفوّت موسم القمح، إلّا أنه لم يجب على هاتفه. فيما أكّد مدير هيئة الشراء العام جان علية لـ«الأخبار» أن أفرام «أرسل عصر اليوم (أمس) نسخة من المناقصة على أساس نشرها بعد مراجعتها من قبل الهيئة، إلّا أنه اتصل بعد ذلك وطلب تأجيلها حتى الغد (اليوم)».
وبحسب المستندات التي اطلعت عليها «الأخبار»، طلب الحاج حسن من أفرام في كتاب مؤرخ في 30 تشرين الثاني إجراء مناقصة عمومية لشراء البذار عملاً برأي هيئة الشراء العام. والأخيرة اتخذت قرارها بناءً على ملفّ قدّمته الوزارة يؤكّد فيه أفرام وجود أصناف أخرى غير صنف القمح المعروف بـ«أكساد 1133». وهذا الصنف تنتجه منظمة «أكساد» التابعة لجامعة الدول العربية. وكان سبق لأفرام أن تقدم باقتراح للوزير باستخدام هذا الصنف، لكنه لم يدعُ إلى مناقصة. وبعد طول انتظار للمناقصة، قرّر الوزير عقد اتفاق رضائي مع «أكساد»، فعاد أفرام نفسه واعترض على العرض، معلناً وجود أصناف أخرى!
وفيما كان من المفترض أن ينهي رئيس مصلحة الأبحاث الزراعية مناقصته في اليوم التالي لرسالة الوزير كسباً للوقت، قرّر مراسلة هيئة الشراء العام في اليوم ذاته بكتاب بخط اليد، ومراسلة منظمة «أكساد» للتأكد من أن المبلغ المرصود لشراء القمح لا يزال موجوداً قبل الشروع في إعداد المناقصة، رغم تأكيدات الوزير له بأن الأموال لا تزال في الحساب المخصص في مصرف لبنان. وجاء الردّ من «أكساد» ومن هيئة الشراء العام، في اليوم التالي، بالتأكيد على توافر المبلغ في الحساب المخصص. لكنه، مع ذلك، تأخر في تسليم النسخة الرسمية الأولى حتى عصر أمس، بعدما كان قد أرسل نسخة أوليّة مساء أول من أمس إلى هيئة الشراء العام للمساعدة في إعدادها بالشكل القانوني، فطلبت منه تعديل بعض الأمور الجوهرية لجهة الغرامة على التأخير. إلا أن أياماً مرّت من دون أي مبرّر تقني أو إداري للتأخير. ويخشى أكثر من مسؤول وجود نيّة لدى أفرام لتأجيل الإعلان الرسمي عن المناقصة حتى مساء غد الأربعاء، لكي تدخل حيز التنفيذ في اليوم التالي، في 8 كانون الأول، علماً أن مهلة تقديم العروض تنتهي بعد 15 يوماً، أي يوم الجمعة 23 كانون الأول. وفي انتظار عودة الدوائر الرسمية إلى العمل يوم 27، لا يعود الوقت كافياً لإنهاء المناقصة قبل السنة الجديدة، أي بعد فوات الأوان، لأن نثر البذار بعد منتصف كانون الأول، يعني تعرّض البذور للسبات الشتوي، ما يمنع عملية التفريخ قبل بداية الربيع المقبل، فيصبح الإنتاج بحدوده الدنيا، هذا إن حصل الإنبات أصلاً.
كلّ هذه المماطلة، لا تقارن مع الإشكالية المثيرة للريبة التي تعتري لائحة الأصناف البديلة التي اقترحها أفرام في المناقصة. إذ تعدّد أصنافاً مشابهة لـ«أكساد 1133»، هي M58، M60، M61، وm63 وهي كلها من المجمع الوراثي لمنظمة «إيكاردا». المريب أن أفرام هو رئيس مجلس الأمناء في «إيكاردا»، كما أنه يعلم تماماً أن المنظمة لا تملك كميات كبيرة من بذور القمح، إذ إن مهمتها تنحصر بالعمل على إنتاج الصنف المحسن وليس إكثاره، والذي هو في صلب مهام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية.
بات واضحاً أن أفرام يريد إفساح المجال أمام «إيكاردا» للدخول في المناقصة من دون سبب منطقي. وهو أساساً خالف تقرير الخبراء الفنيين في المصلحة الذين أوصوا باستيراد «أكساد 1133» من بين كل الأصناف المجرّبة في المصلحة، وهو ما ورد في محضر اجتماع رباعي نشرت «الأخبار» تفاصيله (الإثنين 5 كانون الأول 2022) . واللافت أن مدير مكتب «إيكاردا» في لبنان، الدكتور حسن مشلب، وهو أيضاً خبير في مجال القمح وكان يرأس سابقاً فرع تأصيل الحبوب في المصلحة، كان حاضراً في الاجتماع الرباعي، ووقع إلى جانب مستشار وزير الزراعة على محضر اللجنة الفنية التي أوصت بالإجماع باستعمال «أكساد 1133»، ولم يأتِ على ذكر أصناف أخرى في التقرير! فلماذا تجاهل أفرام تقرير اللجنة الفنية التي عيّنها هو، وأصرّ على إدخال أصناف أخرى مميزاتها الفنية لا تتعدى مقاومة مرض الصدأ الأصفر؟
وفي مراجعة لدليل «التوصيف المورفولوجي» لأصناف القمح والشعير المعتمدة في لبنان، والصادر بالاشتراك بين الوزارة والمصلحة ومنظمة الأغذية العالمية، يتبيّن في الصفحة 30 أن مصلحة الأبحاث طوّرت صنفاً من القمح الطري، يدعى تل عمارة 2 (أكساد 901)، وهو صنف اعتمدته المصلحة عام 2013، يتميّز بإنتاجية عالية ومقاومة للصدأ الأصفر. فلماذا لم يأتِ دفتر الشروط الفنية على ذكر هذا الصنف؟
المثل الأخير، يعيدنا إلى السؤال الأول، لماذا لم تزرع مصلحة الأبحاث الزراعية بذار القمح لهذا العام رغم كل المؤشرات والأحداث التي وقعت في لبنان من انفجار المرفأ إلى كورونا إلى الانهيار الاقتصادي، قبل الأزمة الروسية – الأوكرانية؟
اليوم من الأيام الضائعة من مهلة زراعة القمح، وهيئة الشراء العام تنتظر مناقصة أفرام لتنشرها على الموقع في سباق مع الوقت، ومعها وزير الزراعة، الذي لا يملك أجوبة شافية يبرّر بها للمزارعين أسباب التأخير. فمن يفوز: أفرام، أم المحاولة الطريّة لوزارة الزراعة بتأمين جزء من حاجة طحين الخبز الأبيض من إنتاج محلي؟