يشدّد معظم المصرفيين على ان عملية اعادة هيكلة المصارف لا يمكن ان تتم قبل حلّ معضلة الفجوة المالية في مصرف لبنان البالغة حوالى 72 مليار دولار وتحديد كيفية توزيع الخسائر بين الدولة، مصرف لبنان والمصارف ومن ثم المودعين. ويؤكد المصرفيون ان تسديد البنك المركزي التزاماته للبنوك التجارية بعد ان تلتزم الدولة بتسديد ديونها من يوروبوندز وسندات خزينة وبسدّ الفجوة المالية في مصرف لبنان، من شأنه ان يمكّن المصارف من استعادة اموالها وبالتالي تسديد اموال مودعيها، على ان تتحمّل البنوك النقص في السيولة لديها من خلال اعادة رسملة نفسها.
المصارف مسؤولة أولاً
في المقابل، هناك من يضع المصارف في المرتبة الاولى من حيث توزيع المسؤوليات وتحمل الخسائر على اعتبار ان علاقة المودع هي مع مصرفه اولاً، فهو لم يقرض الدولة عندما ائتمن البنك على ماله. ويقول هذا الرأي بأن على المصارف ان ترفع دعاوى ضد البنك المركزي والدولة ان شاءت لتحصيل اموالها، وعلى القضاء ايضاً تسريع البت بقضايا المودعين وعدم الامعان في حماية المصارف وملاكها كما هو حاصل حالياً بأمر من السلطة الحاكمة وتواطؤ من قضاة ونواب. كما يمكن اللجوء الى القانون 2/67 الذي ينص على احكام خاصة لاخضاع المصارف التي تتوقف عن السداد، بحيث توضع ثروات مساهمي المصارف وثروات مديريها التنفيذيين ومجالس اداراتها ومفوضي الرقابة فيها… على الطاولة. إذ لا يجوز ان يكون المودع مفلساً والمصرفي ثرياً يتنعم بأمواله المودعة في الخارج وبقية اصوله الموزعة في الداخل والخارج.
ويضيف اصحاب رأي تحميل المصارف المسؤولية الأولى: نعلم ان اصحاب المصارف عبارة عن «لوبي» ضغط قوي جداً ولهم علاقات وتحالفات وشبكات مصالح مع رجال السلطة والمنظومة والقضاء والنواب، لكن ذلك لا يعني السماح بالرضوخ لمقولة إن الدولة مسؤولة ويجب استغلال اصولها او ايرادات اصولها لرد الودائع. فهذه الاصول لكل اللبنانيين وليست للمودعين فقط. كما ان استخدامها سيخدم كبار المودعين ويمنع المحاسبة عن المصرفيين وكل من تسبب بهذه الازمة الكارثة.
إجراءات أخرى
إلى ذلك يضاف، بحسب الرأي السابق، مسألة تخفيض حجم الفجوة بالتمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، واسترداد الاموال التي هربت الى الخارج واسترداد ارباح الهندسات المالية والفوائد الفاحشة ومحاسبة المسؤولين عن الازمة، لا سيما اولئك الذين قادوا البنك المركزي ولجنة الرقابة على المصارف ووزارة المال طيلة الفترة التي تكونت فيها هذه الفجوة الهائلة والتي تساوي اكثر من 300% من الناتج، والتي لا يمكن للدولة ان تتولى سدادها من اصولها كما اكد صندوق النقد الدولي الذي شدد على ضرورة الحفاظ على معيار استدامة الدين العام. فهناك ديون قديمة على الدولة وستضاف اليها ديون جديدة وعليها واجب الانفاق الاجتماعي والاستثماري، وبالتالي فان الدولة بحاجة لأصولها وللايرادات من تلك الاصول ولا يمكن التوسع في استخدام الايرادات العامة للدولة لاطفاء الخسائر ورد الودائع كما اكد صندوق النقد الدولي عشرات المرات. وعن تأخير انجاز مشروع قانون هيكلة المصارف تؤكد المصادر عينها ان هناك رفضاً مصرفياً لجملة بنود في المشروع ويمارسون ضغوطاً لمنع اقرار مشروع قانون لا يأخذ مصالحهم في الاعتبار اولاً.
وفق صندوق النقد
أما وجهة نظر الخبراء فتنصح باقرار قانون لاعادة هيكلة المصارف كما اوصى صندوق النقد الدولي ضمن شروطه المسبقة، وذلك بعد أن تقرّر أو تتفق الحكومة حول كيفية التعامل مع الودائع وخسائر مصرف لبنان، على ان تقوم بتشكيل لجنة فنية مهمّتها تسوية أوضاع المصارف وتملك سلطة تنفيذ عملية إعادة الهيكلة بكافة الأدوات المتاحة لذلك، بدءا من دراسة وضع كل مصرف على حدة، مرورا بتنفيذ عملية الإنقاذ وعملية الهيكلة وفقاً لإطار إعادة الهيكلة المفترض اقراره، وصولاً الى اتخاذ قرار تصفية بعض البنوك إذا لزم الأمر، ودمج بعضها الآخر او إصلاح ميزانياتها عبر إلزام إداراتها بإعادة الرسملة بالسيولة النقدية بالدولار…
ولكن لماذا يتأخر اعداد واقرار قانون اعادة هيكلة المصارف لغاية اليوم، وهل ستناقشه الحكومة في جلستها المرتقبة هذا الاسبوع وتقرّه وهل يحقّ لها؟ ام انها سترمي هذا الموضوع على اللجان النيابية التي بدورها تطالب ايفادها بالتدقيق في حسابات المصارف وموجوداتها وحجم الخسائر الواجب تغطيتها من خلال مختلف أدوات إعادة الهيكلة، للبناء على الشيء مقتضاه.
الحاج: ليس صحيحاً أن النواب يعرقلون
في هذا الإطار، أوضح عضو لجنة المال والموازنة النائب رازي الحاج ان العقبة الاساسية من الناحية الشكلية، امام عدم اقرار قانون اعادة هيكلة المصارف، ان القانون غير موجود في مجلس النواب حتى الساعة، «وكل ما يشاع عن ان مجلس النواب يتأخر باقرار التشريعات المطلوبة بغض النظر عن الازمة السياسية المتمثلة بعدم انتخاب رئيس للجمهورية، هو غير دقيق. لان الحكومة لم ترسل منذ 4 سنوات ولغاية اليوم، رزمة القوانين الواجب اقرارها ضمن استراتيجية واضحة للتعافي المالي».
من المسؤول؟
وأشار الحاج لـ»نداء الوطن» الى ان النقاش لا يزال حول الجهات التي يجب ان تتحمّل المسؤولية وحول كيفية تكوين الودائع، ولا تزال تطرح أسئلة حول نوعية الازمة، هل هي أزمة سيولة ام أزمة خسائر؟ كيف سيتم تعويض الخسائر؟ وغيرها من التساؤلات التي تثيرها مختلف الاطراف والتي تحاكي مصالحها وتخوّلها التهرّب من المحاسبة.
وأوضح ان خطة التعافي الاقتصادي يجب ان تبدأ أوّلاً بتحديد المسؤوليات ونسبة تسبّبها في الازمة إن كانت السياسة النقدية او السياسة المالية وعجز الدولة. ومدى قدرة الدولة على تحمّل جزء من المسؤولية مع مراعاة المؤشرات الاقتصادية والمالية التي يوصي بها صندوق النقد الدولي لناحية مستوى الدين العام نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي. بالاضافة الى ان الدولة لم تجرِ لغاية اليوم اعادة هيكلة للدين العام الخارجي والداخلي، «مما يجعلنا في المربع الاول! ويؤكد على ضرورة اقرار قانون التعافي المالي قبل اعادة هيكلة المصارف».
المصارف لتمويل الإقتصاد
وفيما أكد الحاج ان المصارف تتحمّل مسؤولية كبيرة، اعتبر انه يجب في الوقت نفسه، الحرص على اعادة اطلاق القطاع المصرفي من اجل استعادة دوره في تمويل الاقتصاد وخلق النمو من اجل ضمان امكانية تغطية الخسائر. مشيراً ردّاً على سؤال، الى ان اعادة الرسملة وضخ السيولة الجديدة يتحقق في اطار حلّ شامل ومتكامل وهو أمر مرهون باستعادة الثقة اوّلاً، وبالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستعادة ثقة الصناديق المالية العالمية من اجل اقراض لبنان مجدداً، وتفعيل مقررات مؤتمر «سيدر»، وغيرها من العوامل التي تحتاج الى الثقة والى وجود مؤسسات دستورية فاعلة وحكومة أصيلة وقضاء فعال.
ليست مسألة تقنية
وشدد على ان مسألة اقرار قانون اعادة هيكلة المصارف ليست مسألة تقنية بحتة بل هي مرتبطة باعلان الحكومة خطتها بشكل رسمي وواضح للرأي العام. متسائلاً حول الآلية التي يمكن للحكومة ان ترسل فيها قانون اعادة الهيكلة الى مجلس النواب في ظل غياب رئيس الجمهورية، «هل سترسله عبر مرسوم او من خلال الاستعانة ببعض النواب؟».
وختم الحاج بالقول: ان تقاذف كرة النار لا يصبّ في مصلحة المودعين خصوصاً ان هناك سعياً منذ اليوم الاول، لتخيير اللبنانيين ما بين شطب الودائع واقرار تلك القوانين بسرعة أو المماطلة وتمييع الموضوع بهدف تذويب الودائع، «وهما الخياران المرفوضان بالنسبة لنا».
سرّوع: تحديد مصير الودائع أولاً
من جهته، اوضح الخبير المصرفي جو سرّوع ان اعادة هيكلة المصارف عملية معقدة، جزء منها مرتبط بشق قانوني يتعلق بفصل الملكية عن الادارة والجزء الآخر المالي متعلق بتحديد مصير الودائع: حجم الودائع التي سيتم تسديدها والمدة الزمنية التي ستستغرقها عملية التسديد. شارحاً لـ»نداء الوطن» ان السير بما يطرحه صندوق النقد الدولي من امتصاص للودائع من اجل تحقيق المعدلات المالية التي يطالب بها هو امر أساسي سيحدد مصير الودائع، كون معظم الدين العام مموّل من اموال المودعين.
من 100 ألف إلى 50 ألفاً
وشدد على ان العائق الاساسي امام كافة خطط التعافي التي طرحتها الحكومات منذ اندلاع الازمة، كانت قضية مصير الودائع ونسبة الاقتطاعات التي ستطالها لتلبية المعدلات المالية المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، لافتاً الى انه خلال اجتماع لجنة المال الاخير بوفد صندوق النقد الدولي، شدد الاخير على ضرورة خفض الحدّ الاقصى للودائع التي ستم تسديدها من 100 ألف دولار الى 50 ألف دولار إذا لزم الامر، وهو الامر الذي لم يجرؤ أحد على الافصاح عنه.
وبالتالي، أكد سروع انه بعد تحديد مصير الودائع ومصير دين الدولة، يتم تحديد مطلوبات المصارف ويصار الى تقييم وضعها ومدى قدرتها على تحمّل تلك المطلوبات بما يتعلّق بالودائع، ليتم تحديد مصير الدمج او التصفية او الاصلاح. لافتاً في هذا الاطار، الى ضرورة تحديد مصير الاسهم التفضيلية المقدرة قيمتها بحوالى 4 مليارات دولار، ومصير سندات اليوروبوندز…
الشق الإداري والإستثمارات
أما الجزء الثالث من عملية اعادة الهيكلة مرتبط بالشق الاداري والاستثمارات المنوي القيام بها لاحقاً على صعيد مواكبة التطور التكنولوجي واعادة تأهيل الموارد البشرية… وشدد على ان الأهم من ذلك، يبقى في استعادة الثقة بالبلاد، وليس من قبل القطاع الخاص الذي كان في السابق مصدراً للثقة بل من قبل القطاع العام اي الدولة التي اعلنت التخلف عن السداد ولا تزال لغاية اليوم عاجزة عن حلّ تلك المعضلة والتي ضاعفت عدم ثقة المجتمع الدولي بها أضعافاً.
وبالنسبة لعملية اعادة الرسملة وجذب اموال جديدة الى القطاع المصرفي، اعتبر سرّوع انه بعد تحديد مطلوبات المصارف بما يتعلّق بالودائع، ستتقلّص نسبة الرسملة المطلوبة والتي لم تعد كالسابق مقدّرة بـ20 مليار دولار، ولن تشكل بالتالي عائقاً اساسياً في اعادة الهيكلة. معتبراً ان استعادة الثقة بالقطاع العام ستساهم في جذب الاستثمارات الخارجية مجدداً من مؤتمر سيدر وغيرها. علماً ان النموذج التشغيلي الجديد للمصارف سيعتمد على تمويل الاقتصاد بمختلف قطاعاته ضمن خطة اقتصادية لتنشيط القطاعات منها قطاع التكنولوجيا، بالاضافة الى الاستثمارات الخارجية المباشرة التي يمكن ان يجذبها عدد كبير من القطاعات التي تحتاج الى التطوير في لبنان.