لنحو ثلاثة أيّام متواصلة، احتفت بعض الأوساط الماليّة والسياسيّة اللبنانيّة ببعض العبارات المُجتزأة، التي وردت على لسان نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، والتي جاء فيها أنّ “صندوق النقد ليس الخيار الوحيد” للبنان، وأنّه بالإمكان “استعمال أموال المستثمرين” لتجنيب البلاد “المزيد من ديون” الصندوق.
لقد جاءت هذه الجمل كحبل خلاصٍ يتمسّك به بعض أصحاب المصالح المصرفيّة والسياسيّة، من الذين ضاقوا ذرعًا بالإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد، كشرطٍ قبل توقيع أي اتفاق تمويلي مع لبنان. وأكثر ما كان يقلق هؤلاء، كان ضغط المجتمع الدولي على لبنان لتنفيذ إصلاحات الصندوق بالذات، قبل الاستفادة من أي دعم خارجي آخر. ولذلك سوّق خصوم صندوق النقد في لبنان كلام أورتاغس بوصفه انقلابًا في الموقف الأميركي، وتخليًا عن خارطة الطريق الماليّة التي يطلبها الصندوق.
أورتاغس توضّح
بعد متابعة ردود الفعِل، أدركت أورتاغوس أنّ كلامها أطرب من لا يجب أن يُطرَب أبدًا. وأنّ هناك من تحايل لإساءة تفسير موقفها. فعادت لتوضّح، في مقابلة مع تلفزيون الجديد، بكلمات لا لبس فيها: لقد تمّ تفريغ تصريحاتها من سياقها، وهي لم تطلب تجاوز الإصلاحات، بل قالت العكس تمامًا.
وليفهم من حاول التذاكي في تحوير مقصدها، ذهبت إلى لبّ الموضوع، لتسمّي الإصلاحات الماليّة المقصودة، من قانون إصلاح أوضاع المصارف إلى قانون الفجوة الماليّة. وحرصت على ذكر المرحلة التي وصل إليها كلّ مشروع قانون، ليفهم المستمع مدى اهتمامها بالمسألة. باختصار، لا تزال واشنطن متمسّكة بسلّة الحلول التي يتابعها صندوق النقد بشكل دقيق، وما جرى اجتزاؤه من حديثها سابقًا كان محصورًا بتناول إمكانيّة الاستغناء عن قرض الصندوق، وليس رؤيته للتعافي المالي في لبنان. ووجود مصادر تمويل بديلة، لا ينفي الحاجة للاتفاق مع الصندوق.
هكذا، وبجمل معدودة، أنهت أورتاغس كل الحملة الإعلاميّة التي طعنت بجدوى الاستمرار بمفاوضة صندوق النقد، أو بالعمل على الإصلاحات التي يطلبها، على افتراض أنّ الإدارة الأميركيّة تخلّت عن رؤية الصندوق. وبطبيعة الحال، لم يتمتّع التوضيح بنفس الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به العبارات المجتزأة، بل واستمرّت بعض المواقف السياسيّة في التعليق على العبارات السابقة والمجتزأة من دون اعتبار للتوضيح اللاحق.
مرجعيّة صندوق النقد
المصادر المُطّلعة على نتائج لقاءات الوفود اللبنانيّة في واشنطن، طوال الفترة الماضية، تُجمع على أنّ الإدارة الأميركيّة تتبنّى من دون أي لبس خارطة الطريق المتّفق عليها بين لبنان وصندوق النقد الدولي، بالنسبة لمسار التعافي المالي. بل وتشير هذه المصادر إلى أنّ الإدارة الأميركيّة تستند إلى التقييم التقني الذي يجريه صندوق النقد للخطوات الإصلاحيّة التي تقوم بها الحكومة اللبنانيّة، عند مقاربة الملفّات الماليّة المرتبطة بلبنان.
وتمامًا كحال الغالبيّة الساحقة من الدول والجهات المانحة، تعتبر الإدارة الأميركيّة أنّ صندوق النقد هو الجهة التي تملك الكفاءة والخبرة في تقييم ومتابعة حالات التعثّر الحاد، كالتي يمرّ بها لبنان، ما يفرض على الحكومة اللبنانيّة الحصول على “شهادة الثقة” من الصندوق قبل العودة إلى أسواق المال العالميّة.
في الواقع، كانت أورتاغس قد أكّدت في وقتٍ سابق على هذا التوجّه، حين أشارت قبل نحو شهر إلى أنّ إدارة ترامب “تعمل عن قرب” مع فريق الصندوق، الذي “يقترح إصلاحات واقعيّة وضروريّة لكي يخرج لبنان من اللائحة الرماديّة لمجموعة العمل المالي”. وفي المقابلة نفسها، ركّزت أورتاغس على أهميّة الإصلاحات التي يطلبها الصندوق للخروج “من الاقتصاد النقدي، وعودة القطاع المالي الذي تميّز به لبنان سابقًا”.
وبهذا الشكل، كانت أورتاغس تربط في حديثها ما بين الخطوات التي يطلبها صندوق النقد، مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة أزمته، والأولويّات التي تحملها الإدارة الأميركيّة، وفي طليعتها محاربة الاقتصاد النقدي الذي يسهّل بنظرها تمويل حزب الله. وفي الحديث نفسه، كانت أورتاغس تبدي معرفتها بصعوبة وقسوة شروط الصندوق، لكنّها كانت تشير إلى ضرورتها لإنقاذ اقتصاد البلاد.
وهذا التوجّه ترجمته الإدارة الأميركيّة في مواكبتها لأدق تفاصيل الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، من الصيغة التي أقرّتها الحكومة لمشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة، إلى التعديلات التي طرأت على المشروع نفسه في البرلمان، وصولًا إلى مناقشات مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف.
وهكذا، كانت الإدارة الأميركيّة تكيّف متابعاتها للشأن الاقتصادي اللبناني مع الرؤية التي وضعها الصندوق لمسار التعافي المالي، والتي ارتكزت على هذه التشريعات بالذات. وبطبيعة الحال، امتلكت الإدارة الأميركيّة بعض الأولويّات الخاصّة بهذه التشريعات، وخصوصًا في الجانب المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، غير أنّ واشنطن لم تخرج عن الإطار العام الذي وضعه الصندوق بالنسبة لهذه الإصلاحات.
لا بديل عن الصندوق
من الناحية العمليّة، وبمعزل عن تصريحات أورتاغس نفسها، لا يوجد بديل يُغني المجتمع الدولي عن ربط الحل المالي اللبناني ببرنامج صندوق النقد الدولي. فالدولة اللبنانيّة ستكون قريبًا أمام استحقاق التفاوض مع حملة سندات اليوروبوند من الدائنين، من أجل إعادة هيكلة الديون وفق استحقاقات وفوائد وقِيَم جديدة. وللتمكّن من نيل ثقة الدائنين، ومن ثم أخذ موافقتهم على إعادة الهيكلة، سيكون على الحكومة اللبنانيّة إثبات حسن النيّة وتأكيد قدرتها على التعافي وسداد الديون في المستقبل. وهذا ما يوجب التوصّل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد، لإثبات جديّة ومصدقية خطّة التعافي المالي، أمام المستثمرين الأجانب. مع الإشارة إلى أنّ برامج الصندوق تقوم على مراجعات دوريّة، لتأكيد إنجاز البلد المعني للخطوات التصحيحيّة المطلوبة منه، ما يعطي ضمانة للدائنين بعد إعادة هيكلة ديونهم.
على هذا النحو، لن يستفيد لبنان كثيرًا من قيمة قرض صندوق النقد، التي لن تتخطّى الـ 3 مليارات دولار أميركي، والتي سيتم صرفها للحكومة اللبنانيّة على دفعات متعدّدة. فقيمة هذا التمويل ضئيلة مقارنة بحجم الخسائر، أو بحجم الاستثمارات التي يمكن للبنان الحصول عليها في المستقبل. وهذا ما يفسّر حديث أورتاغس عن وجود بدائل لقرض الصندوق. غير أنّ عدم الحاجة لهذا التمويل، لا يُغني لبنان عن تنفيذ شروط الصندوق الإصلاحيّة، وعن توقيع اتفاق نهائي يؤمّن الثقة بالدولة اللبنانيّة وخطتها الماليّة، وذلك بمعزل عن حجم القرض نفسه. وهذا ما تعرفه الإدارة الأميركيّة جيدًا.