استقال المئات من موظفي الخدمة المدنية السوريين من أعمالهم منذ بداية العام نتيجة عدم كفاية رواتبهم التي بالكاد تكفي لتغطية تكاليف تنقلهم، في وقت تفرض فيه الحكومة السورية تدابير متعددة لجعل عملية الاستقالة صعبة ومكلفة وتعد بزيادة الرواتب والمكافآت.
وأوقفت هذه التكتيكات تدفق الاستقالات في الوقت الحالي، لكن استمرار النجاح غير مرجح حتى تتماشى الرواتب مع ارتفاع تكاليف المعيشة في سوريا.
وكانت الوظائف الحكومية في سوريا مطلوبة كثيرا في الماضي؛ حيث كانت توفر الأمن الوظيفي (لم يكن أحد يسمع بأن موظفا مّا طُرد من العمل)، وتضمن الترقيات وزيادة الرواتب. وكان من النادر أن يتعرض موظفو الخدمة المدنية (مثل المعلمين والأطباء وأفراد القوات المسلحة) للإجهاد؛ إذ يستغرق دوام عملهم بضع ساعات فقط في اليوم ويتمتعون بعطلات رسمية وافية.
غير أن الجانب السلبي الرئيسي هو الرواتب التي كانت تقارب مبلغ 400 دولار أميركي شهريا لمعظم الوظائف. لكنها كانت كافية لتغطية نفقات الموظفين.
والآن زالت هذه الفوائد. ويبلغ متوسط الأجر الشهري لموظف الخدمة المدنية اليوم أقل من 100 ألف ليرة سورية (حوالي 23 دولارا)؛ أي فقدت رواتب موظفي الخدمة المدنية ما يقرب من 80 في المئة من قيمتها منذ اندلاع الحرب الأهلية سنة 2011.
وتسهم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في احتداد هذه الظاهرة. وقد أدى انخفاض قيمة الليرة السورية ومستويات التضخم غير المسبوقة ونقص السلع الأساسية والتداعيات العالمية للحرب الروسية – الأوكرانية إلى زيادة كبيرة في تكلفة المعيشة بسوريا وخلق فجوة غير مسبوقة بين الدخل والإنفاق.
وتجاوز متوسط تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد 2.8 مليون ليرة سورية في مارس الماضي، أي أكثر من 28 ضعف متوسط الرواتب الحكومية. لذلك ليس من المستغرب أن يحاول العديد من موظفي الخدمة المدنية العثور على فرص أفضل داخل البلاد وخارجها.
ولا تصدر الحكومة أرقاما دقيقة حول موجة الاستقالات، مما يصعّب معرفة عدد العاملين في القطاع العام الذين تركوا وظائفهم من بين حوالي 700 ألف عامل في سوريا. لكن تقارير إعلامية تشير إلى استقالة المئات، إن لم يكن الآلاف، من موظفي الحكومة في مختلف المحافظات، بما في ذلك السويداء واللاذقية، منذ بداية هذا العام.
ويُعتقد أن عدد العمال الذين لا تزال استقالاتهم معلقة أو الذين رُفضت طلباتهم أعلى من ذلك.
وترك عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية السورية مناصبهم على مدى العقد الماضي. وذكر تقرير صادر عن دائرة الهجرة الدنماركية في أبريل 2021 أنه تم رفع نحو 138 ألف قضية تتعلق بعمال تركوا منصبا عاما دون سابق إنذار إلى المحاكم بين عامي 2011 و2017. ومن بين 50 ألف حكم، صدر حكم في 38 ألف قضية لصالح الدولة و12 ألف حكم لصالح الموظفين.
وتراوحت العقوبات بين الغرامات والاتهام بالإرهاب. وذكر التقرير أن الحكومة السورية تعتبر التخلّي عن منصب في القطاع العام عملا سياسيا أو نشاطا مناهضا للحكومة.
لكن الإجراءات العقابية لم تكن كافية لردع هذه الظاهرة؛ فقد أقر رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس بأن الرواتب تعدّ أقل بكثير من تكاليف المعيشة، وتم رفع تلك التي يتلقاها موظفو القطاع العام بنسبة 30 في المئة في ديسمبر 2021. ووعد المسؤولون الحكوميون منذ ذلك الحين بزيادة إضافية تقدّر نسبتها بـ25 في المئة، لكن هذه الزيادة لم تتحقق بعد.
وحصل موظفو الحكومة على 75 ألف ليرة سورية إضافية في أبريل، و100 ألف أخرى في أغسطس، حتى أن الحكومة رفعت المخصصات المعفاة من الضرائب إلى 92 ألف ليرة سورية من 50 ألف ليرة، مما يعني أن معظم موظفي الخدمة المدنية يدفعون القليل من ضرائب الدخل أو لا يدفعون أي ضريبة على الإطلاق.
ويرى حايد حايد، الاستشاري في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، أن هذه الإجراءات تعتبر قليلة ومتأخرة جدا بالنسبة إلى الكثيرين. واستمرت الاستقالات، وهو ما حدا بالحكومة في الشهر الماضي إلى إصدار توجيه للوزارات يحثها على أن تكون أكثر صرامة عند مراجعة طلبات الاستقالة، وألا تتم الموافقة على الطلب إلا إذا لم تكن الإدارات المعنية بحاجة إلى الموظف. وحتى في هذه الحالة، يجب أن تأتي الموافقة من وكالة الاستخبارات الوطنية.
وتُرفض طلبات استقالة العديد من الموظفين تلقائيا بسبب هذه التعقيدات البيروقراطية. ويواجه أولئك الذين لا تُرفض مطالبهم منذ البداية استجواب قوات الأمن، وهو أسلوب تخويف واضح يهدف إلى إبقاء الناس في وظائفهم.
ولم ينجح سوى عدد قليل من السوريين في ترك وظائفهم خلال الأشهر الأخيرة. ومن المحتمل أن يكون العديد من موظفي الخدمة المدنية موجودين في مناصبهم بدافع الخوف.
لكن الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا يعني أن اتساع الفجوة بين الدخل ونفقات المعيشة سيستمر إن لم يحدث تدخل أقوى.