لا تبدو الورقة والاجراءات التي اعلنت الحكومة عنها أمس، مُقنعة من الوجهة الاقتصادية. وفي أحسن الاحوال، يمكن توصيف هذه الاجراءات بأنّها بمثابة أوكسجين لمرة واحدة، لكنها ليست اصلاحات مستدامة يمكن الركون اليها للخروج من الأزمة القائمة.
مهما كانت البنود التي تتضمنها الورقة الاصلاحية للحكومة، ولو ظهرت انّها خيالية بعيدة المنال والتطبيق، إلّا انّ الاصلاح الحقيقي إن وُجد، لن يعصى أبداً عن تنفيذ أي إجراءات في بلد أغرقه الفساد والهدر والمحسوبيات والسرقات والاستيلاء التام على ادارات الدولة ومرافئها ومعابرها.
لكنّ الثقة في الدولة ورجالاتها إن فُقدت، وهذا ما جرى، لا يمكن الاستعاضة عنها، ولو حتّى أقرّت الحكومة ما كان الشعب يطالب به منذ سنوات. فمجلس النواب الذي ستحال اليه تلك البنود الاصلاحية، يتألف من ممثلي الاحزاب اللبنانية كافة، التي يطالب المحتجون في الشوارع اليوم بإقالتهم جميعاً. وبالتالي، لا أحد يضمن ان تمرّ تلك الاصلاحات في المجلس النيابي لتسلك طريقها نحو التطبيق.
بالاضافة الى ذلك، فانّ الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان، كان قبل اندلاع التظاهرات، على شفير الهاوية، وكان القطاع المصرفي يعتمد سياسة تقنين الدولارات بعد هروب نسبة كبيرة من الاموال الى الخارج وانعدام التدفقات المالية الى لبنان. فكيف سيكون الحال اليوم في أوّل يوم عمل للمصارف؟ لا أحد يمكنه التنبؤ بحجم الاموال التي سيتم سحبها، إلّا انّ المؤكّد انّ مشهد التهافت على المصارف سيكون مألوفاً.
واذا كانت الليرة اللبنانية قد وصلت الى مستوى 1600 مقابل الدولار قبل اندلاع الاحتجاجات وفرض اقفال عام، فانّ سعر صرف الليرة بلغ في اليومين الماضيين في السوق السوداء 1800 ليرة، ما دفع الصيارفة الى مقاطعة بيع الدولار، والاكتفاء بشرائه بسعر تراوح بين 1620 و1650 ليرة لبنانية.
في هذا الاطار، أعرب كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance IIF)، غاربيس إيراديان، عن سروره، لأنّ الغالبية الصامتة في لبنان تحتج أخيراً على نطاق واسع وفي مدن مختلفة في لبنان، لكنّه اعتبر في المقابل انّ الاصلاحات التي اعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري امس، غير مشجّعة ومخيّبة للآمال لأنّها لا تؤدي الى رفع إيرادات الحكومة على أساس مستدام، فهي اجراءات لمرّة واحدة كمساهمة القطاع المصرفي في خفض كلفة خدمة الدين العام والضريبة الاستثنائية على ارباح المصارف لعام واحد، وخصخصة قطاع الاتصالات.
وقال إيراديان لـ«الجمهورية»: «انّ المحتجّين في الشارع لن يكونوا راضين عن الورقة الاصلاحية التي اقرّتها الحكومة، كما انّ الجهات المانحة في «سيدر»، كالبنك الدولي والبنك الاوروبي للاستثمار والدول المشاركة لن تكون ايضاً راضية، لأنّها تطالب بإصلاحات هيكلية. فمن وجهة نظر المانحين الدوليين، انّ ما اعلنه رئيس الحكومة لا يكفي ولا يُعتبر اصلاحاً حقيقياً، بل طريقة لخفض عجز الموازنة». لافتاً الى انّ «البنود المعلنة قد تؤدي فعلاً الى خفض العجز في العام 2020 الى الصفر، في مقابل عجز بنسبة 8 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي من دون تلك الاجراءات».
اضاف: «انّ الاصلاح الحقيقي يعتمد على تدابير رئيسية تعالج فعلاً التهرّب الضريبي في الجمارك، بالاضافة الى اغلاق المعابر غير الشرعية، تفعيل جباية الضرائب، فرض ضريبة تصاعدية على المؤسسات والشركات والافراد».
واشار الى انّ الحكومة وضعت أمامها فقط هدف خفض العجز في الموازنة من دون فرض الضرائب، لكنّها لم تعالج المشكلة الاساسية لأنّ الاجراءات التي اتخذتها غير مستدامة.
وفي التفاصيل، رأى ايراديان انّ مساهمة المصارف في خفض كلفة خدمة الدين العام بقيمة 3,3 مليارات دولار هو أمر جوهري، لأنّه يمثل 5,5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، لكنه اعلن في المقابل عدم تأييده لتحميل المصارف كامل الاعباء، لانّ المصارف تؤمّن اساساً النسبة الاكبر من ايرادات الضرائب المفروضة على الشركات، وبالتالي يجب ايضاً تحميل الشركات غير المالية جزءاً من هذا العبء، لأنّ الاخيرة تتهرّب من دفع الضرائب.
وفيما اشار الى انّ خفض مخصصات الرؤساء والوزراء والنواب بنسبة 50 في المئة هو إجراء رمزيّ فقط، أكّد انّ الايرادات الناتجة منه غير مهمّة.
كما اعتبر انّ خصخصة قطاع الاتصالات اجراء يؤيّده صندوق النقد الدولي منذ 15 عاماً، وهي خطوة جيّدة توفر بين 1 و 1,5 مليار دولار، ما يمثل 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، «لكنّ هذا التدبير هو لمرّة واحدة، وايراداته ضمن الموازنة ستتأتى مرّة واحدة فقط، لذلك اتساءل من اين سيتمّ تعويض هذه الايرادات في الاعوام اللاحقة 2021 و2022 لخفض نسبة العجز؟».
كما لفت ايراديان الى انّ الحكومة لم تعلن عن طريقة محدّدة لاصلاح قطاع الكهرباء، وما زالت الامور غير واضحة، رغم انّ مشكلة الكهرباء معروفة منذ 10 سنوات ولم تقم أي من الحكومات المتعاقبة بمعالجتها.
واعتبر انّه كان من الممكن ان تقوم الحكومة بما قامت به معظم الدول التي قررت محاربة الفساد، بالاعلان عن اسماء بعض كبار الفاسدين واتهامهم بالفساد ومحاسبتهم. هذا الأمر كان سيرسل اشارة ايجابية الى الأسواق بأنّ الحكومة جادّة في مكافحة الفساد.
وأشار الى انّه لا يمكن تحديد كم من الوقت ستستمرّ التظاهرات، لكن «كلما طالت مدّتها كلّما شلّت الاقتصاد على غرار تظاهرات العام 2017، مما يخلق حالة من عدم اليقين السياسي لن يحبذها المستثمرون والمانحون الدوليون، كما انّه سيردع المغتربين اللبنانيين من ايداع اموالهم في لبنان بما سيؤثر على الودائع المصرفية ويؤدي الى تراجعها».
ورأى ايراديان، انّ مفتاح استقرار النظام المالي اليوم هو الحصول على اموال «سيدر» واستئناف الاصلاحات، معتبراً انّه سيكون من الحكمة اليوم الطلب من صندوق النقد الدولي تنفيذ برنامج إنقاذ في لبنان، «وهو مستعدّ لمساعدة لبنان بما لا يقلّ عن 2 ملياري دولار خلال 3 سنوات. وهذا الامر قد يبعث بإشارات ايجابية الى الاسواق لأنّ الحكومة الحالية لا تضمّ اقتصاديين قادرين على ادارة الأزمة بالشكل المطلوب».
وختم ايراديان مرجّحا ان تتراوح نسبة الانكماش الاقتصادي في العام الحالي بين 1 و2 في المئة.