تحاول وزارة الصحة إعادة ترتيب أوضاعها وترميم علاقتها مع المواطنين الذين كانوا يعتمدون بشكل رئيسي على تغطيتها الصحية، أي أولئك الذين لا تشملهم أي تغطية صحية من الجهات الضامنة الأخرى، مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو تعاونية موظفي الدولة أو شركات التأمين الخاصة… وغير ذلك.
فمع انهيار سعر صرف الليرة، باتت التغطية الصحية للوزارة بلا قيمة تُذكَر لأنها تُدفَع للمستشفيات بالليرة. الأمر الذي أخرَجَ الوزارة بسرعة من حسابات المستشفيات الخاصة التي لم تعد تقبل بتغطية الوزارة، وإن بشكل موارَب وليس رفضاً صريحاً. وأحياناً ترفض بوضوح. أما المستشفيات الحكومية، وإن كانت لا تستطيع رفض مرضى الوزارة، إلاّ أن قدرتها على تأمين الرعاية الصحية لهؤلاء، انعدمت. فالشركات المورِّدة للأدوية والمعدّات والمستلزمات الطبية، تطلب دفع قيمة فواتيرها نقداً وبالدولار. ولأن المستشفيات الحكومية ملتزمة بما تقدّمه الوزارة من موارد مالية لا تُحَوَّل سريعاً، وهي بلا قيمة شرائية فعلية، باتت هذه المستشفيات غير قادرة على تقديم ما يلزم من رعاية.
ومع ذلك، خَطَت الوزارة خطوة إيجابية إلى الأمام، بإعلان الوزير فراس الأبيض، تأمين التغطية الصحية للمرضى على حساب الوزارة، بنسبة 80 بالمئة في المستشفيات الحكومية وبنسبة 65 بالمئة في المستشفيات الخاصة.
استعادة القدرة على التمويل
وصلت الوزارة في ظل تراجع قيمة الليرة، إلى حدٍّ خسرت فيه التمويل المخصص لها بنسبة 90 بالمئة، وفق ما قاله الأبيض في مؤتمر صحافي يوم الجمعة 22 آذار. ما يعني أن الوزارة باتت قادرة على تغطية خدماتها “بما يتراوح بين 10 و20 بالمئة فقط. ولكن مع الموازنة الجديدة (2024) عادت التغطية لترتفع بشكل كبير، وباتت تتراوح بين ثمانين ومئة بالمئة مقارنة مع التغطية التي كانت قبل الأزمة”. علماً أن هذه التغطية وفق الأبيض “تشمل الإستشفاء وأتعاب الأطباء”. لكن تبقى تغطية مرضى غسيل الكلى مجاناً.
واستعادة الوزارة بعضاً من قدرتها التمويلية، سرَّعَ في إعلان رفع مستوى تغطيتها في المستشفيات.
المستشفيات الخاصة تراقب الدولار
قبل انهيار سعر صرف الدولار منذ نحو 4 سنوات، شَكَت المستشفيات كثيراً من تأخُّر دفع الفواتير، رغم أن بعض المستشفيات الخاصة استفادت كثيراً من تضخيم فواتيرها على حساب الوزارة، وحقّقت أرباحاً كبيرة. وبعد الانهيار، جهدت تلك المستشفيات لعدم استقبال مرضى الوزارة. لكن يبدو أن المياه تعود جزئياً إلى مجاريها بين الوزارة والمستشفيات، لكن بحذر وشروط. وإذ يرحِّب نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، بقرار الوزير، يقول في حديث لـ”المدن”، أن الاتفاق مع وزارة الصحة في هذا الملف، “يقضي أن يدفع المريض قيمة 35 بالمئة من الفاتورة وتغطّي الوزارة نسبة 65 بالمئة يُدفَع منها 60 بالمئة خلال أسبوع أو اثنين والباقي خلال شهرين أو ثلاثة”.
لا مانع لدى المستشفيات الخاصة من إعادة تفعيل العلاقة مع الوازرة، لكن الكلمة الفصل لضمان حسن سير العلاقة التعاقدية، هي سعر صرف الليرة. ويشير هارون إلى أن “لا مشكلة بثبات طريقة الدفع على ما اتّفق عليه، لكن هناك مشكلة في حال تقلُّب سعر الدولار”.
هموم المستشفيات الحكومية أكبر
تأخَّرَت وزارة الصحة كثيراً في محاولة إقفال حسابها مع المستشفيات الحكومية، حتى جاء انهيار سعر صرف الليرة وامتصَّ القدرة الشرائية لأي مبلغ قد تحوّله الوزارة للمستشفيات. ولأن المقياس في إعادة الوزن للتغطية الصحية على حساب الوزارة، هو مدى تأمينها القيمة النقدية للدولارات أو الليرة على سعر صرف السوق، فإن قرار الوزير “لا يحلّ مشكلة الوضع الحالي للمستشفيات الحكومية”، وفق ما تقوله مصادر في المستشفيات الحكومية.
فالمشكلة حسب المصادر “أبعد بكثير من رفع سقف التغطية الصحية أو استئنافها أو تنشيطها. والعبرة ليست في نسبة التغطية، إذ حتى لو وصلت إلى نسبة 100 بالمئة، فمتى ستحوِّل الوزارة أموال المستشفيات؟ وهل سيكون لها قدرة شرائية لتغطية فواتير المورِّدين؟”.
وتعيد المصادر التذكير في حديث لـ”المدن”، بأن انتظام الدفع أمر أساسي، وهو ما لم يكن يحصل قبل العام 2019. وتلفت النظر إلى أن “الوزارة ستقوم بدفع 60 بالمئة من قيمة السقف المالي المحدد لكل مستشفى حكومي، خلال شهر نيسان المقبل، لتأمين السيولة في المستشفيات، لكن هل السيولة كافية لتأمين مستلزمات تغطية المرضى بنسبة 80 بالمئة؟، سيّما وأن المستشفيات منذ بداية الأزمة، تقوم بشراء الدولار لصالح المورِّدين، بواسطة الليرات التي تحوِّلها لها الوزارة. وعليه، الوضع أصعب مما يبدو”.
حسابات حقل الوزارة
هو مشروع “ممتاز”، تقول المصادر، لكن في ظل الوضع القائم، قد لا تظهر النتائج قريباً “بانتظار انتظام الدفع وانتظام تسليم المورِّدين لكل المتطلّبات”. وحسب المصادر “كان هناك إمكانية لتفادي أزمة القطاع الصحي، وذلك عن طريق “إصدار الوزارة قراراً لكل المستشفيات الحكومية، يقضي بتسجيل كل احتياجاتها لمدة عام على سبيل المثال، ويتم تنظيم مناقصة شاملة تؤمّن كافة المستلزمات. وبهذه الطريقة، تضمن المستشفيات تأمين المعدات والمستلزمات بطريقة آمنة من جهة العدد والسعر، وتتخلّص الوزارة من ابتزاز المورِّدين، لها”. وأضافت المصادر أن المكاسب المهمّة أيضاً لمسألة المزايدة، “تظهر من خلال تقليصها للهدر والفساد ومنع الاتفاقات الجانبية بين المستشفيات والأطباء وشركات الأدوية والمورِّدين وما له علاقة مع المستشفيات”.
“وزارة الصحة لم تُستَحدَث اليوم”، تقول المصادر. وبالتالي “كان يجدر بها السؤال عن المستشفيات والمرضى منذ زمن، ولم يحصل ذلك. فهل ستستطيع حماية المرضى وضمان استمرارية المستشفيات الحكومية”.
حسابات حقل الوزارة لم تتطابق مع حسابات بيدر المرضى. فهُم لا يزالون أمام نسبة 20 بالمئة في أحسن الأحوال، عليهم تأمينها للمستشفيات الحكومية. هذه النسبة، هي حكماً بالدولار أو بالليرة وفق سعر السوق، ما يعني أن عليهم تأمين ملايين الليرات، هي اليوم غير موجودة لدى معظمهم. أما وأنّ مستوى الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية متدنٍ جداً مقارنة مع خدمات المستشفيات الخاصة، فيصبح المرضى أمام أضعاف مضاعفة من الملايين عليهم تأمينها، خصوصاً وأن نسبة تغطية الوزارة في المستشفيات الخاصة 56 بالمئة. ناهيك عن التجاوزات التي قد تحصل في تلك المستشفيات، لجهة طلبها فارق تغطية الوزارة بالدولار.
واستباقاً لأي محاولة من هذا النوع للمستشفيات الخاصة، طمأن الأبيض المستشفيات أن “الدفع بالتعاون مع وزارة المالية سيكون سريعاً، ولذلك، ليس هناك من عذر لكي تطلب المستشفيات أموالاً غير مشروعة من المواطنين بحجة حصول تأخير في قبض المستحقات”.