منذ أكثر من 4 سنوات، باتت العلاقة بين بعض المكلّفين ووزارة المالية، علاقة من طرف واحد، حيث إنه من واجب المكلّف الضريبي سداد متوجّباته لوزارة المالية من دون أن يطالب في المقابل باسترداد مطلوباته منها. هذه هي حال المصدّرين في لبنان الذين توقّفت وزارة المالية منذ العام 2019 عن دفع مطلوبات استرداد الضريبة على القيمة المضافة المستحقة لهم عن عمليات التصدير، وفقاً للمرسوم رقم 7336 تاريخ 31/1/2002 وتعديلاته (حق الحسم)، الذي ينصّ على حقّ الخاضع للضريبة الذي تبلغ قيمة عمليات صادراته مبلغ 50 مليون ليرة لبنانية سنوياً أن يطلب عند نهاية كل فترة ضريبية استرداد فائض الضريبة القابلة للحسم بنسبة توازي نسبة صادراته الفصلية وذلك اعتباراً من 1/7/2004. ما يعني أنّ الصناعيين على سبيل المثال الذين يستوردون مواد أولية ويسدّدون ضريبة القيمة المضافة عليها، ومن ثم يعيدون تصدير منتجاتهم الصناعية الى الخارج، يحقّ لهم استرداد الضريبة على القيمة المضافة التي سدّدوها سابقاً على المواد الأولية. مع العلم أن استرداد الضريبة على القيمة المضافة لا يشمل المصدّرين فقط بل السفارات والهيئات الدبلوماسية والمنظات الدولية، رجال الأعمال غير المقيمين، والسيّاح، بشروط معيّنة لكل فئة منهم.
مع اندلاع الأزمة
ومع اندلاع الأزمة في العام 2019 وتراجع إيرادات الدولة بشكل ملحوظ وانهيار سعر الصرف، توقّفت الوزارة عن تسديد طلبات الاسترداد. وعمدت، بدلاً من إعلان توقّفها عن السداد بسبب عدم قدرتها على تأمين أموال الاسترداد الضريبي، الى وضع شروط تعجيزية أمام المكلّفين، من أجل استرداد الضريبة على القيمة المضافة، ما جعل الأمر مستحيلاً وأدّى الى تراكم مستحقاتهم لدى الوزارة منذ 4 سنوات بمئات مليارات الليرات، ما جعلها تفقد قيمتها نتيجة انهيار سعر الصرف، خصوصاً أن متوجبات «المالية» لا تحسم من قيمة مستحقات المكلّف الضريبي على الوزارة.
وضمن الشروط التي وضعتها الوزارة منذ العام 2020 والتي جعلت الاسترداد مستحيلاً أمام المكلّفين: أن تكون قيمة الاستردادات تفوق الـ50 مليون ليرة، أن تقوم المؤسسة أو الجهة التي تطالب بالاسترداد، بتقديم كفالة مالية لمدة سنة بقيمة تعادل القيمة المطلوب استردادها، الى أن تنجز الإدارة الضريبية المختصة التدقيق في طلبها. وتستعمل الكفالة المالية لتحصيل المبالغ التي يتبيّن بعد الدرس أنه لا يحق للمكلّف استردادها، مع الغرامات القانونية التي تترتّب عليها. ومنذ ذلك الحين، لم تقم المؤسسات بتقديم طلبات استرداد، أوّلاً بسبب عدم قدرتها على تجميد الكفالة المالية المطلوبة وهي تعاني نقصاً بالسيولة، وثانياً، لأن أي دراسة تقوم بها مصلحة الضرائب تخلص الى تكبيد المكلّف غرامات!
سلطة على فئة معينة من الشركات
في المقابل، تتشدّد «المالية» في ملاحقة الشركات والمؤسسات الشرعية وتفرض «سلطتها» على فئة معيّنة من تلك المؤسسات فقط عبر الشروع بعمليات تدقيق لفرض الغرامات و»شفط» ما أمكنها، إن كوزارة أو كمراقبي مصلحة الضرائب، من تلك المؤسسات التي ما زالت لغاية اليوم مؤمنة بمواصلة أعمالها بطريقة رسمية وشرعية رغم الضرائب والرسوم التي تنهال عليها مع كلّ مشروع موازنة يقرّه مجلس النوّاب.
وفيما «تتشاطر» وزارة المال على فئة واحدة من الشركات والمؤسسات في مناطق معيّنة، هناك مئات الشركات والمؤسسات المحظّر التدقيق في حساباتها وبياناتها أو تصريحاتها المالية لأنها فقط تنتمي الى الفئة أو الأقضية الموالية لتبعية معينة نافذة. بينما تنغل المؤسسات غير الشرعية المتهرّبة من الضرائب «على عينك يا تاجر»، لا بل تنمو وتزدهر أعمالها بدعم مبطّن من وزارة المالية التي تغضّ النظر عن أعمال تلك الشركات.
وسط هذا الوضع الشاذ، الى متى ستستمرّ المؤسسات والشركات الشرعية، بالالتزام ضريبياً، وهي التي يتقلّص حجم أعمالها يومياً نتيجة منافسة ونمو الاقتصاد غير الشرعي في مقابل زيادة الضرائب والرسوم عليها؟ والى متى يمكن أن تبقى المؤسسات الشرعية صامدة، وهل من الأفضل أن تركب موجة الاقتصاد الأسود؟
نصراوي: الصناعيون يتكبّدون خسائر
في هذا الإطار، أكد نائب رئيس جمعية الصناعيين جورج نصراوي أن مستحقات المؤسسات والشركات لدى وزارة المالية والناتجة عن طلبات استرداد الضريبة على القيمة المضافة، غير مسدّدة منذ العام 2019، «وأيّ مؤسسة تطالب بالاسترداد تقوم الوزارة بإحالته للدراسة والتدقيق في بياناتها المالية وتصريحاتها، علماً أن تلك الدراسات غالباً ما تأتي نتائجها تكبيد المؤسسات، المزيد من الغرامات».
وأشار نصراوي الى أن الصناعيين تكبّدوا خسائر كبيرة جرّاء المبالغ المتراكمة والمستحقة لهم لدى وزارة المالية عن طلبات الاسترداد، «ورغم أن تلك المستحقات هي حق مكتسب ستعيده الوزارة، إلا أنها فقدت قيمتها مع انهيار الليرة منذ 2019، في وقت يحتاج الصناعيون الى تلك الأموال خصوصاً أنهم ملتزمون بتسديد متوجّباتهم الضريبية».
ماذا عن الإقتصاد غير الشرعي؟
وفي ظلّ ازدهار الاقتصاد غير الشرعي وتفشّي المؤسسات غير المرخّصة، أكد نصراوي أن جمعية الصناعيين رفعت الصوت مراراً وتكراراً حول أهمية هذا الموضوع والضرر الكبير الذي تلحقه الصناعات غير المرخّصة والمتهرّبة ضريبياً، على المؤسسات الشرعية. مشيراً الى أن الجمعية طالبت وزير الصناعة والبلديات بإفادتها بالمصانع غير المرخّصة التي تعمل في نطاقها، من أجل إحصائها وضبطها، «إلا أننا لم نلقَ تجاوباً في هذا الإطار من قبل البلديات».
وأشار الى أن وزارة المالية تدقّق في حسابات وبيانات الشركات الشرعية المسجّلة لديها، «أما المؤسسات الأخرى المتهرّبة وغير الشرعية، فلا حسيب أو رقيب عليها!» علماً أن شكاوى ومعاناة الصناعيين ظاهرة، ويطالبون الدولة بالحفاظ على المؤسّسات الشرعية الممتثلة للقوانين خصوصاً أن المصانع الصغيرة والمتوسّطة الحجم متعثرة ولم تعد قادرة على الصمود أكثر، خصوصاً وفقاً لمفاعيل الموازنة الجديدة التي زادت الضرائب عليهم من دون أن تقابلها خطط إنتاجية وإنمائية.
ضاهر: هذا ما يقوله القانون
من جهته، أوضح المتخصص في الشؤون الضريبية المحامي كريم ضاهر أن هناك حالات متعددة للضريبة القابلة للاسترداد وفقاً للمواد 30 و58، و49، و59 من قانون الضريبة على القيمة المضافة التي لا يجب أن تشكل عبئاً على العميل الاقتصادي بل فقط على المستهلك النهائي.
وبالتالي أكد ضاهر أن من حق العملاء الاقتصاديين طلب استرداد الضريبة على القيمة المضافة مع نهاية كل فصل أو سنة ضمن مهلة 20 يوماً من نهاية السنة، على أن تقوم وزارة المالية في مهلة أقصاها 3 أشهر بالردّ على طلب الاسترداد بعد دراسته. وفي حال لم يرد الجواب للمكلّف خلال تلك المهلة، يعتبر طلب الاسترداد متوجباً على الدولة، وإذا جاء الردّ بوجود مخالفات للشروط التي تضعها الوزارة، يمكن إذاً للمكلّف مخاصمة الدولة. وإذا كان المكلّف صاحب حق 100% يمكنه ملاحقة الدولة وطلب ربط نزاع مع وزارة المالية أمام مجلس شورى الدولة. وأوضح أنه في حال لم تطبق الوزارة الاسترداد بعد مهلة الـ3 أشهر، تترتب عليها غرامة حسب الفائدة القانونية التي كانت تبلغ سابقاً 9% وأصبحت حالياً 0.75% شهرياً.
نتحوّل إلى دولة فاشلة ومارقة
وفيما أكد ضاهر أن التشدّد في شروط الاسترداد واجب ومحقّ من قبل وزارة المالية من أجل مكافحة التهرّب الضريبي، إلّا أن التوقّف عن دفع طلبات الاسترداد والتأخر بدفعها بذريعة وجود مخالفات، يمكن أن يكونا ذريعة من أجل عدم تحمّل الغرامات.
وأشار الى «أننا بحالة استثنائية وظاهرة الـ»لا دولة» وانهيار المؤسسات حيث إن وزارة المالية لا تملك الإمكانات التقنية والبشرية منذ 4 سنوات لدراسة طلبات الاسترداد خلال مهلة 3 أشهر، ما يؤخّرها بطبيعة الحال لتلبية تلك الطلبات ويمنعها من تطبيق الأصول القانونية المرعية الإجراء سواء من ناحية الإدارة أو من ناحية الوضع المالي. وفي المقابل، شدّد ضاهر على أنه لا يجوز تكبيد العملاء الاقتصاديين خسائر مالية نتيجة هذا الوضع المتردّي في مؤسسات الدولة، ما يؤثر سلباً على الحركة الاقتصادية وعلى الاستثمارات في البلاد، خصوصاً ان الضريبة على القيمة المضافة لم تعد تسدّد على الـ1500 ليرة بل أصبحت على سعر صرف السوق، وبالتالي فإن حجم الخسارة التي يُمنى بها العملاء أصبح كبيراً. وفي الختام، رأى ضاهر أن هذا الوضع هو من ظواهر تحوّل الدولة الى دولة مارقة وفاشلة!