ما نقلته وسائل الإعلام عن “مصادر” المصرف المركزي، يوحي أنّ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري أدّى قِسطه للعُلى، في محاسبة الحاكم السابق رياض سلامة وكشف ارتكاباته. لقد تعاون مع القضاء -تقول المصادر- وسلّمه الداتا المذكورة في تقرير “آلفاريز آند مرسال”. وهذه الداتا، وفقًا لعقد وزارة ماليّة مع الشركة، متاحة أصلًا للدولة اللبنانيّة، كجزء من ملف التدقيق الجنائي في المصرف. لكن بعيداً عن أحجيات وتسريبات المصادر والأشباح، يدرك كل من تابع تطوّرات ملف سلامة الجنائي أنّ “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان لم تشهر فعلًا السيف –قضائيًا- على الحاكم السابق، كما يفترض أن تفعل “أمّ الصبي”، القيّمة على المؤسسة المُشتبه بتعرّضها للاختلاس.
في هذا الملف، كما في الكثير من الملفّات الأخرى، كان منصوري مربكًا. هو يريد الابتعاد عن صورة الحاكم السابق، بعدما جلس إلى يمينه نائبًا أولًا، منذ صيف العام 2020 وحتّى انتهاء ولاية سلامة في نهاية تمّوز 2023. يريدنا أن نراه خارج جلباب رياض سلامة، في الأدوات والممارسة والسياسة النقديّة. هو ليس رياض آخر، كما يريدنا دائمًا أن نفهم، من كل ما يسرّبه ويقوله. لكنّه يبدو دائمًا، لمن يراقبه عن قُرب، مغلول اليدين. لا يملك هذا الهامش، الذي يريدنا أن نتصوره. ربما هي شبكة المصالح، أو المرجعيّة السياسيّة، أو طاقم عمل المصرف المركزي نفسه. أيًا يكن الحال، تبقى النتيجة نفسها: على منصوري أن يفعل ما هو أكثر، لإرساء نهج جديد في المركزي، من خارج إرث رياض سلامة.
قيادة المصرف المركزي المغيّبة
تولّت “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان زمام الأمور بعد رحيل سلامة في أواخر شهر تمّوز 2023، أي قبل عام وشهر من الزمن. هذه القيادة، وعمادها النائب الأوّل للحاكم، الذي أضحى حاكمًا بالإنابة، ومعه النوّاب الثلاثة الأخرين، لم تكن “جديدة” فعلًا. كان هؤلاء قد امضوا في دهاليز المصرف المركزي ثلاث سنوات من الزمن، بعد تعيينهم في مناصبهم، التي وضعتهم تلقائيًا كأعضاء في المجلس المركزي للمصرف، الذي يرأسه رياض سلامة شخصيًا. ما يهمنا من عرض هذا التفصيل، هو الإشارة إلى أنّ نوّاب الحاكم السابق لم يكونوا في حاجة إلى كثير من الزمن، للإطلاع على الملفّات، ومن ثم فتح مسارات المساءلة والمحاسبة.
بعد أيّام معدودة من مغادرة سلامة، وتولّي منصوري الحاكميّة بالإنابة، نُشر تقرير التدقيق الجنائي، الذي حمل ما يكفي من مؤشّرات تدل على شبهات الاختلاس وصرف النفوذ وتبييض الأموال. كان من المفترض، تمامًا كما أوصى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في كتاب خطّي، أن يُبنى على التقرير من خلال إجراءات تصحيحيّة في إدارة مصرف لبنان، وتحديد الضالعين في الانتهاكات لتتم محاسبتهم. وكان من المفترض أيضًا أن تتشكّل لجنة تقصّي حقائق، تضم مصرف لبنان، للتوسّع في التحقيقات وملاحقة الأموال المهرّبة، تمهيدًا لاستعادتها. ومن يملك بحر الداتا، التي حُرمت منها “آلفاريز آند مرسال” نفسها، غير مصرف لبنان؟
كان مصرف لبنان مطالبًا في ذلك الوقت، وبعد خروج سلامة من الحاكميّة، بالمضي قدمًا في التحقيقات الداخليّة، بعدما منع الحاكم السابق الشركة من توجيه أسئلة لـ 33 موظّفًا، من أصل 47 موظفًا توخّت الشركة مقابلتهم. كما انتظر الجميع استكمال التدقيق الجنائي الأوّلي، بتدقيق أوسع، بعد تذليل العقبات التي منعت الشركة من التوسّع في التدقيق. توقيع عقد جديد، للتوسّع في التدقيق، هو مهمّة وزارة الماليّة. لكنّ المصرف المركزي -بوصفه صاحب الأموال المُشتبه باختلاسها- كان معنيًا بمتابعة المسألة والمطالبة بها.
مرّت الأيّام وظلّت الأمور تراوح مكانها. ما نعلمه عن فضائح سلامة، يقتصر على ما ورد في تقرير التدقيق الجنائي، أو تحقيقات المحاكم الأوروبيّة، أو التحقيقات الموازية التي جرت في لبنان لدى القاضيين جان طنّوس وغادة عون. في جميع المراحل، ظلّت قيادة المصرف المركزي تُعلن “استعدادها للتعاون مع القضاء”، وكأن المصرف شاهد محايد في جريمة، لينتظر من يسأله عنها. لم تكن “القيادة الجديدة” أمّ الصبي فعلاً.
ثم تقاعست القيادة الجديدة عن اتخاذ صفة الادعاء على رياض سلامة في المحاكم اللبنانيّة، بإسم المصرف المركزي. وفي فرنسا، لم تحصل هذه الخطوة إلا بعد نحو سنة من تولّي “القيادة الجديدة” زمام المبادرة في مصرف لبنان. وهي لم تحصل إلا بعدما خشيت قيادة المصرف من مصادرة أملاك سلامة في أوروبا، بدل استعادتها إلى لبنان، وهو ما يمكن أن يحمّل هذه القيادة مسؤوليّة ضياع هذه الأموال العموميّة.
كانت قيادة المصرف المركزي شبه مغيّبة، بعيدًا عن الدور الفاعل الذي كان يفترض أن تلعبه، على مستوى التوسّع في أعمال التدقيق الداخلي، وملاحقة الملفّات أمام القضاء. أن تقول مصادر مصرف لبنان اليوم أنّ المصرف سلّم داتا التدقيق الجنائي للقضاء، وأن تعتبر ذلك دورًا فاعلًا في الملف، ليس سوى استخفاف بالدور المُنتظر من قيادة المصرف نفسه.
الأداء المرتبك لمنصوري
في جميع الملفّات الأخرى، كان منصوري مرتبكًا في التعامل مع إرث سلامة، وبالشكل نفسه. ألغى منصّة صيرفة، فور رحيل سلامة، بوصفها أداة غامضة وملتبسة للتداول بالدولار. وأرادنا أن نفهم منذ البداية أنّه “ليس سلامة” في علاقته مع سوق القطع، وأنّ التداول بالدولار سيكون عبر منصّة جديدة وشفّافة. مرّت الأيّام ولم تولد المنصّة الشفّافة، وظلّ المصرف المركزي يعتمد آليّات غامضة وملتبسة لجمع الدولارات من السوق الموازية. من يعلم اليوم كيف تُجمع الدولارات، وبأي عمولة؟ وكيف يختار المصرف المركزي الصيارفة الذين يتعامل معهم؟
هو “ليس سلامة” في علاقته مع الدولة اللبنانيّة، ولن يتم تأمين التمويل للدولة إلّا بقانون. غير أنّ العلاقة الحميمة ما بين المصرف المركزي ووزارة الماليّة، سرعان ما أنتجت سياسة نقديّة إشكاليّة وغير مألوفة، تقوم على احتجاز الأموال العامّة وحجبها عن الإدارات الرسميّة، حتّى ضمن سقوف الاعتمادات المنصوص عنها في الموازنة. أولويّات الإنفاق العام، باتت تُحدد بإستنسابيّة، ووفقًا لحسابات سياسيّة في كثيرٍ من الأحيان. والاستقرار النقدي، صار معتمدًا على سياسة تقشّفية حادّة تعتمد على امتصاص الليرات بالضرائب والرسوم، ومراكمتها في مصرف لبنان.
على هذا النحو، لم يتمكّن منصوري من تحقيق الانتقال الجذري، في طريقة إدارة المصرف المركزي، كما أوحى في جميع المحطّات. كابوس منصوري الدائم، هو أن يُرى كامتداد لحقبة رياض سلامة. وهذا ما يفسّر إصراره الدائم على استعراض إدارته كنهج جديد ومختلف، وخصوصًا في التسريبات غير الرسميّة التي يتم تمريرها دائمًا إلى وسائل الإعلام. لكن كلام المصادر والتسريبات شيء، والواقع شيء آخر.
وعلى الشفافيّة أن تبدأ أصلًا بالعودة إلى نشر التقارير والبيانات الماليّة الكاملة، وعرض التطوّرات في بيانات رسميّة، بدل الاعتماد على “أشباح” لتسريب المعطيات الغامضة. فالتعامل مع الإعلام بهذه العقليّة، لا يخرج إلا من تحت جلباب رياض سلامة.