“وصفة” الإنقاذ و”طبخة” بحص السلطة

تمر الأيام ببطء شديد مثقلة بالعجز عن تنفيذ خطة إقتصادية عادلة وشاملة. كل الأفكار التقنية اصطدمت بـ “اللاءات” السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر. فحَرَم رفض إقرار “كابيتال كونترول” عادل الإقتصاد من استمرار نزيف الودائع من دون حسيب أو رقيب. ودفع تقاذف التهم بين المصارف والدولة على تفويت فرصة الإلتقاء في الوسط لحل أزمة الودائع. واستمر انعدام الثقة بالحكومة من الداخل والخارج، وتعرية قدرتها على الإصلاح مراراً وتكراراً، في حشر البلد في مربع الأزمة الأول.
يرى البعض ان خطة الحكومة بتوصيف حجم الكارثة الإقتصادية “لأول مرة في تاريخ لبنان” بدقة كبيرة، وكشف تضخم حجم الدين الى الناتج بأكثر من 176 في المئة، وازالة الغطاء عن الفجوة النقدية بقعر 83 مليار دولار، وغيرها الكثير من الحقائق المطموسة في الهدر والفساد… سيخرجها مع العهد بمظهر المنقذ، فور بدء تطبيق الخطة والانتصار وحل المسألة، وذلك كأسلوب “عنترة بن شداد” بتعظيم اعدائه. إلا ان ما لم تنتبه اليه الخطة هو تلك الثقة الزائدة بمكوناتها الذاتية، التي كانت المعرقل الاول على طريقة المثل الشعبي “دود الخل منّو وفي”.

التقييد الاستنسابي

والتجربة الماليزيةقبل أيام قليلة كشف رئيس الحكومة حسان دياب “ملحق” الخطة الذي أكد على احترام اموال المودعين، %98 منها على الأقل، مشدداً على ضرورة استعادة الأموال المسروقة والمهربة. إجراء ليس فقط متأخراً انما “غير نافع”، يقول الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية والشؤون الاستثمارية جهاد الحكيّم. فانقاذ الليرة والإقتصاد، برأيه، “كان متاحاً لو ان خيار “الكابيتال كونترول” اعتُمد منذ العام 2019. ولكان وفّر علينا مآسي لا تعد ولا تحصى، ليس اسوأها انهيار سعر الصرف. فهذا الواقع افقد لبنان دوره الاقتصادي الثقافي الصحي المحوري في الشرق الاوسط، حيث لم يعد مصرفه ولا جامعته ولا مستشفاه ولا حتى، الى أمد غير محدود، فندقه”.

في تسعينات القرن الماضي (1997) استطاعت ماليزيا الخروج من مأزقها إبان الازمة المالية الآسيوية، باعتماد “الكابيتال كونترول”، وقدرتها على استرجاع كمية كبيرة من الاموال المهربّة، على عكس جاراتها من النمور الآسيوية التي اضطرت للاستدانة من الخارج. تجربة لم تعنِ شيئاً للمسؤولين عندنا، ليس لجهلهم بالتجارب التاريخية، انما لعمق معرفتهم بأن تقييد الرساميل رسمياً سيحد من قدرتهم على تهريب ثرواتهم والنفاذ بدراهمهم، وهو ما يؤشر عليه بوضوح تراجع الودائع في المصارف اللبنانية لغاية نهاية شباط الفائت من حدود 180 مليار دولار الى 149 ملياراً. أرقام ان دلت على شيء فهو على استمرار تهريب الودائع بشتى الطرق. “إستمرارالتقييد الاستنسابي غير الرسمي للودائع بالعملات الاجنبية وتحرير اللبنانية، سبب آخر يعمّق الازمة ويزيد من انهيار سعر صرف العملة الوطنية”، برأي الحكيّم. كيف لا، و”كل السحوبات بالليرة اللبنانية تحول الى الدولار لانعدام الثقة بالسياسة وبمستقبل لبنان”.”الصندوق” حاف!

تسارع وتيرة الانهيار أخرج المسؤولين من “ظل إصبعهم” ودفعهم إلى الاعتراف بضرورة مد اليد إلى صندوق النقد الدولي لانتشال البلد من المأزق الواقع فيه. فـ”تمهيداً للمحافظة على الثقة الدولية بلبنان، وإعادة الأمل إلى شعبه، باشرت وزارة المال التواصل مع صندوق النقد الدولي الذي لمسنا منه أصداء إيجابية على مشروع الخطة المالية، آخذين في الاعتبار، أولاً وأخيراً، مصلحة اللبنانيين، لنحصل على دعم المؤسسات الدولية”، قالها رئيس الحكومة “حاف” من دون دسم الخطوات الإجرائية والتنفيذية والمدة الزمنية التي ستتبع هذه الخطوة.

على غرار “الكابيتال كونترول”، فان اتت خطوة الاستعانة بصندوق النقد الدولي “ستكون متأخرة ما لا يقل عن ستة أشهر”، يقول المستثمر في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. “فكل يوم تأخير بالتواصل الجدي مع الصندوق هو يوم ضائع من عمر الإقتصاد والبلد”.

ما يعيق التواصل مع “الصندوق” ليس “الخطة”، التي تضمن من التفاصيل، بحسب الزين، “أكثر مما يحتاجه طلب المساعدة”، انما غياب التوافق السياسي الداخلي. وهو ما سيصعّب، برأي الزين، التوافق على دور الصندوق وحجم تدخله، “فكل الأطراف السياسية ما زالت تضع مصالحها وجماعتها أمام مصلحة البلد. ولا أحد منهم يقدم المنفعة الوطنية على الشخصية”.

الوضع حرج

ما يمر به لبنان يعتبر، برأي خبراء الأسواق المالية، غير مسبوق عالمياً. فمن النادر ان يجتمع العجز في المركزي والمصارف والمالية العامة وانهيار سعر الصرف، في اقتصاد واحد؛ عوامل لا تهدد، برأي الخبراء، بأزمة اقتصادية مفتوحة، ان لم تتخذ الخطوة الجريئة بطلب السيولة من صندوق النقد الدولي، انما بانهيار شامل.

في الوقت الذي يزداد الضغط على “صندوق النقد الدولي” عالمياً بعد جائحة كورونا وما تسببه من انهيارات، فان لبنان بشخصه الرسمي ما زال “يتدلع” على الصندوق. وهو ما سيفوت علينا فرصة انقاذ جدية وقد تكون الوحيدة “ان لم نطلب برنامجاً استثنائياً من الصندوق اليوم قبل الغد”، يقول الزين. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فان أهمية الدخول في برنامج مع صندوق النقد لا تتعلق فقط بالحصول على السيولة، انما بما يفرضه من شروط مراقبة صارمة لتطبيق الخطة وتوزيع عادل للخسائر على جميع الاطراف.

“كارما”

تأخر وصول “كورونا” واضطرار السلطة الى الاعتراف بالانهيار قبل نحو ستة أشهر هو بمثابة “كارما، التي عرت المسؤولين وأعادت الحق للمواطنين”، يقول الحكيّم، “وإلا لكانوا ألبسوا الجائحة كل اسباب المشكلة”.

الدخول في برنامج مع صندوق النقد مترافق مع “فرض ضريبة لمرة واحدة وبمفعول رجعي لعامين على الأقل على الودائع المحدودة وتلك المهربة، التي استفادت من فوائد الهندسات بما يشبه الربى الفاحش”، برأي الحكيّم، خطوتان قد تبعدان كأس الانهيار المر عن الوطن والمواطن. فهل من يسمع؟

مصدرخالد أبو شقرا - نداء الوطن
المادة السابقةترامب: نسعى لتحويل 75 مليون برميل من النفط للمخزون الاحتياطي
المقالة القادمةأوكسفام: 50 مليون شخص مهدّدون بالمجاعة في غرب أفريقيا