جاء يوسف الخليل عند تشكيل حكومة ميقاتي كنقطة تقاطع تجمع ما بين قربه من حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، واعتباره ممثلًا لـ”عين التينة” في أبرز موقع شيعي داخل الحكومة، بالإضافة إلى معرفته بالشؤون التقنيّة الماليّة بحكم عمله السابق كمدير للعمليّات الماليّة في مصرف لبنان.
مرحلة القرارات الحاسمة
منذ تشكيل الحكومة، وفّق الخليل ما بين جميع هذه المصالح والحسابات في عمله في الوزارة، في جميع المحطّات الحاسمة: من تحقيقات رياض سلامة وصولاً إلى ملفات التدقيق الجنائي وخطة التعافي والموازنة وغيرها. والتوفيق بين هذه الحسابات والمصالح (والولاءات) لم يكن صعبًا، إذ لم يضطر الخليل إلى المفاضلة بين مطالب متناقضة أو متعارضة.
لكن في هذه المرحلة، بات على الخليل اتخاذ قرارات حاسمة. مصرف لبنان، والحاكم بالإنابة وسيم منصوري بالتحديد، بات يضغط على وزير الماليّة ليبصم على جريمة العصر: الـ16.5 مليار دولار التي أضافها رياض سلامة كدين على الدولة اللبنانيّة في شباط 2023. وبدل فتح تحقيق جنائي بحق سلامة، لدوره في تزوير ميزانيّات مصرف لبنان، بات على الخليل أن يشترك في الجريمة ويوقّع عليها. والخليل، يعلم أن هذه الفعلة الشنيعة كفيلة بحرق إسمه وسمعته بشكل نهائي.
وفي الوقت نفسه، يضغط منصوري على وزارة الماليّة لإصدار مرسوم يحدّد سعر صرف خاص للسحوبات المصرفيّة، ما سيعيد المودعين إلى تجربة التعميم 151، لكن بغطاء حكومي. وهذا ما سيضع وزير الماليّة في مواجهة مباشرة مع المودعين، بدل أن يكون الحاكم بالإنابة المسؤول الفعلي عن هذا الملف.
يوسف الخليل وجريمة الـ16.5 مليار دولار
في شباط 2023، قرّر رياض سلامة العودة بالزمن إلى الوراء 16 سنة، لاحتساب جميع عمليّات القطع التي قامت بها الدولة اللبنانيّة، أي عمليّات شراء الدولار مقابل ليرات لبنانيّة، كديون على الدولة (وهي بقيمة 16.5 مليار دولار).
زعم سلامة أنّ هذه الخطوة جاءت بتفاهم مع وزير الماليّة السابق جهاد أزعور، غير أنّ أزعور نفى، وكذلك فعل جميع وزراء الماليّة السابقون والمتعاقبون منذ ذلك الوقت. باختصار، ما فعله سلامة لم يكون سوى تزوير صريح في قيود وميزانيّات المصرف المركزي، خصوصًا أن تسجيل الديون العامّة على الدولة لا يحتاج إلى موافقة وزير الماليّة فقط –وهو ما لم يتوفّر أصلاً- بل يحتاج إلى تشريع خاص من المجلس النيابي أيضًا.
ولّى رياض سلامة في آب الماضي، وجاءت “القيادة الجديدة” للمصرف، التي كان يفترض أن تعمل على تصحيح الميزانيّات وتنقيتها من الشوائب وأعمال التزوير التي قام بها الحاكم السابق (وهي لم تقتصر على هذه الفضيحة فقط). غير أنّ منصوري تبنّى منذ قدومه إلى الحاكميّة –بالإنابة- دين الـ16.5 مليار دولار، وبات يحاجج أمام النوّاب والناشطين بضرورة قيد المبلغ كدين على الدولة والاعتراف به. وهكذا، بات المصرف المركزي في عهد منصوري يتبنّى الفضيحة، بدل أن يفتح تحقيقًا مفصّلًا في الألاعيب التي أفضت إلى قيد المبلغ كدين بعد 16 سنة من إخفائه.
تطول لائحة الأسئلة هنا: إذا كان منصوري يعتبر أن الدين هو إلتزام مستحق الأداء على الدولة اللبنانيّة (وهو ليس كذلك)، ألا يفترض ذلك التحقيق في سبب إخفائه من الميزانيّات لـ16 سنة متتالية؟ ألا يعتبر ذلك تحايلًا وتزويرًا لإخفاء دين مستحق على الدولة؟ وعلى أي حال، كيف يُعتبر هذا المبلغ دينًا مستحقًا، من دون أي مصادقة تشريعيّة وفقًا لنصوص القانون؟ بأي موجب قرّر سلامة عام 2023 العودة بالتاريخ للوراء واحتساب هذه الديون؟
نهج منصوري
في قضيّة الـ16.5 مليار دولار، كما في الكثير من القضايا، بات نهج منصوري استكمالًا رتيبًا لنهج سلامة. غير أنّ الملفت هذه المرّة –وهذا ما لم يفعله سلامة بالمناسبة!- هو سعي منصوري للحصول على مصادقة من وزارة المال على دين الـ16.5 مليار دولار. بل واستعانته بضغوط بعض المرجعيّات السياسيّة، التي تجمع ما بين منصوري والخليل، لدفع الخليل إلى المصادقة على هذا الدين.
يوسف الخليل ما زال يدرك حتّى اللحظة خطورة الموافقة على إضافة هذا الدين، خصوصًا أنّ موقعه كوزير للماليّة يفرض عليه الدفاع عن مصالح الدولة اللبنانيّة، في وجه خطوة لا تستند إلى أي مسوّغ قانوني أو تشريعي. كما يخشى الخليل أن يتورّط في موافقة قد تضعه في مساءلة قانونيّة خطيرة في المستقبل، كونه يعلم أن ملف الـ16.5 مليار دولار سيستدعي تحرّك الدائنين الأجانب ضد الدولة ومصرف لبنان، حيث تمثّل هذه الخطوة تحايلًا موصوفًا يضر بمصالح الدائنين.
من جهته، يبدو منصوري في موقع مريح نسبيًا، طالما أن إضافة الدين في شباط 2023 جاءت بتوقيع الحاكم السابق رياض سلامة، وهو لم يتورّط حتّى هذه اللحظة في أي توقيع يحمّله مسؤوليّة هذه الخطوة. وجلّ ما يريده اليوم، هو نيل توقيع وزارة الماليّة على هذا الدين، لطي صفحة الدين وجعله أمرًا واقعًا. مع الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان شكّل لجنة خاصّة للبحث في تصحيح ميزانيّات المصرف، من دون أن يتوصّل إلى اتفاق مع وزارة الماليّة حول هذا الملف.
سعر صرف السحوبات المصرفيّة
غسل منصوري يديه من مسألة سعر الصرف المعتمد للسحوبات المصرفيّة، بعدما أوقف جميع العمليّات التي كانت تعتمد سعر صرف منخفض للسحب من الودائع المدولرة. غير أنّه حاول رمي هذه الكرة في ملعب مجلس النوّاب أثناء مناقشة المجلس للموازنة، من خلال مقترح تقدّم به وزير المال السابق علي حسن خليل، يقضي باعتماد سعر صرف 25 ألف ليرة للدولار للسحوبات من المصارف. سقط الاقتراح في البرلمان، ورفض المجلس تحمّل مسؤوليّة قرار من هذا النوع، فعادت الكرة إلى ملعب منصوري من جديد.
اليوم، يشتد الضغط على وزارة الماليّة لإقرار سعر صرف خاص للحسوبات المصرفيّة، باعتبار أنّ الوزارة هي المسؤولة عن تحديد أسعار الصرف المعترف بها رسميًا. ومرّة جديدة، أدرك يوسف الخليل خطورة التورّط في خطوة من هذا النوع، لكونها ستضع الوزارة في موقع المتواطئ لقوننة الاقتطاع من قيمة السحوبات المصرفيّة. وحتّى هذه اللحظة، ما زال الخليل يتمنّع عن إصدار أي قرار أو مرسوم من هذا النوع، بانتظار البت بهذا الملف من خلال مشروع قانون الكابيتال كونترول.
في خلاصة الأمر، يبدو يوسف الخليل كمن وقع في حفرة يصعب الخروج منها. بين ضغوط مصرف لبنان، والضغوط السياسيّة التي تحاول مجاراة الحاكم بالإنابة، بات الخليل يحاول شراء الوقت، بانتظار انتهاء دوره في وزارة الماليّة قبل أن يضطر لاتخاذ قرارات تحمّله مسؤوليّات قانونيّة تاريخيّة، أو تحمّله نقمة المودعين.
ولهذا السبب، ثمّة من يعتقد أن يوسف الخليل أدرك اليوم فداحة الخطأ التي ارتكبه حين تولّى هذه المسؤوليّة، تمامًا كما حصل مع سلفه غازي وزني.